شيئاً فشيئاً، تتخلى الدوائر الرسمية عن هيئتها المعهودة، ربما نجد في الوقت القريب، الكثير من المباني الحكومية والمؤسسات بالإمارات، ولاسيما الشارقة، أصبحت متاحف عالمية، تضاهي اللوفر أو جاكومار أو حتى متحف جلاسكو أو مترو بوليتان بفرنسا، بما تحمله جدرانها من لوحات فنية، تنافس العشاء الأخير أو عذراء سيستينا لرافاييل أو سيدة الصخور لدافنشي. هذا التوجه حرص عليه مديرو الدوائر والمؤسسات الحكومية، بل والخاصة في تزيين حوائطهم بالكثير من اللوحات الفنية والأعمال الخطية التي تعكس الثقافة العربية والإسلامية بكل أبعادها، وتبعث الاطمئنان إلى المتلقي من مراجعي المكان أو الموظفين المقيمين، فيتسرب إليهم إحساس بحسن الذوق وروعة المكان الذي يقضون فيه جل أوقاتهم. الجمال في حد ذاته شيء رائع والإحساس به أيضاً، والحرص على أن تعكس المؤسسة الثقافة الخاصة بالدولة، يعمق في النفس معاني الرغبة الأكيدة في الإبداع والتفوق في العمل الذي نقوم به، وهذا نفسه ما يتسرب إلى أنفسنا حين نعمل في أماكن تهتم بالمظهر العام، وتبعث في نفوسنا البهجة، وترغبنا في احترام كل جميل، وتقدير كل حسن. قال حمد الروسي (موظف) إن اللوحات الفنية الموجودة في أماكن العمل لها الكثير من الآثار الإيجابية في الموظفين والمراجعين ولاسيما المهتمين بالفنون والرسم، وإنهما سبب مباشر في الشعور بالجمال، فالمكان المزين باللوحات يترك انطباعاً إيجابياً من الوهلة الأولى لدى المراجعين للدائرة. وأضاف الروسي: الاهتمام بتزيين أماكن العمل باللوحات الفنية سواء المرسومة أو المكتوبة بخطوط عربية تنمي حاسة الجمال لدى الأفراد، وأنا من خلال مشاهدتي لها في مكان عملي أشعر براحة وحب للمكان وانتماء إليه. ويرى أنها تشد انتباه الكثير من الموظفين والمراجعين الذين يقفون أمامها فيتأملون ما تحتويه اللوحات من فنون وألوان، ومن خلالها يمكن للكثيرين تذوق نوع آخر من الفنون وهو فن الرسم والخطوط العربية بأشكالها المتباينة. ويؤكد الروسي قدرتها على توجيه الكثيرين ممن يرونها إلى البحث عبر الشبكة العنكبوتية، عن مثيلاتها من اللوحات الفنية لكبار الفنانين والبحث عنها واقتنائها في المنازل والمكاتب والشركات الخاصة إن أمكن. وعن اللوحة المعلقة في الدائرة التي يعمل بها الروسي يقول إنها تعكس أماكن ومناطق متنوعة من الشارقة وتوحي بجمالها وروعتها وتجسد الطبيعة الماثلة بها، مما يجذب الكثيرين بعد ذلك ويحثهم على زيارة هذه الأماكن وتنشط على أثرها السياحة الداخلية ويزيد الوعي بأماكن قد لا يعرفها الكثيرون وهي جزء من الوطن الغالي. أما عبيد أحمد (موظف في دائرة التسجيل العقاري بالشارقة) فيقول إن اللوحات الفنية المعروضة في المؤسسات الحكومية تعكس مدى الوعي المجتمعي بالفنون والآداب التي تعد جزءاً من الحضارة لأي شعب ولأي أمة. ويضيف أحمد أن مثل هذه الأعمال تحثنا على متابعة المعروض من الأعمال الفنية، بجانب القدرة على التذوق الفني لما نشاهده من أعمال فنية ولوحات إبداعية في أماكن مختلفة، ويرى أن الاهتمام بها جزء من الاهتمام بالذوق العام. ويؤكد أحمد أن الكثيرين من المراجعين يقفون أمام هذه اللوحات الإبداعية التي يتم اختيارها بعناية من قبل المسؤولين والمهتمين بالفنون في الدوائر المختلفة ولاشك أنها ترفع مستوى الوعي بقيمة الجمال وتحض على ممارسته بأشكاله المتنوعة ومنها الشعور به، ولاسيما في أماكن العمل والتي يقضي فيها الموظف جل وقته. ويرى أحمد أن هذه الأعمال الفنية ليس لها أثر سلبي في الموظفين في المؤسسات ولا تشتت انتباههم كما يظن البعض في تضييع أوقات العمل، بل تعد حافزاً قوياً للاستمرار في العمل لساعات طويلة من دون ملل ولا كلل، فالأماكن التي تهتم بالذوق تهذب الوجدان. أما عن جمال اللوحات المعروضة في المؤسسة التي يعمل بها فيقول: إنها لأحد الفنانين المشهورين بالإمارات وأنا متابع لأعماله الفنية وتعرفت إليه من خلال ما عرض له من أعمال في أكثر من منطقة بالإمارات، ولوحاته الإبداعية تعكس ثقافة إماراتية أصيلة وتوحي بالحيوية وتبعث على النشاط. ويضيف: وجودها بالمكان يعد إضافة إلى الاهتمام بالشكل والمنظر العام وتزين المكان وتضفي عليه الروعة والبهجة وتشد انتباه المراجعين والموظفين على السواء. أمل راشد (موظفة) تقول: إنني أهتم كثيراً بالتفاصيل في كل شيء ومنها اللوحات الموجودة في أماكن العمل، أتفقدها وأحاول أن أقف عند دلالتها وما تعكسه في النفوس من شعور. وتضيف راشد: إن الاهتمام بوضع لوحات فنية في المؤسسات الحكومية يعد اهتماماً بالذوق العام والأخذ بأسباب الثقافة الحديثة والسعي حثيثاً لتنمية التذوق الفني والجمالي والإبداعي لدى المشاهدين من الموظفين المقيمين في المكان والمراجعين. وترى راشد أن الكثير من اللوحات الفنية تعكس إبداعاً وقدرة فائقة على التصور والتخيل والاهتمام بالذوق العام، ولاسيما أن الكثيرين ينمو لديهم الحس الفني من خلال ما يشاهدون، فحاسة النظر والمشاهدة إحدى الوسائل الحديثة في تنمية الشعوب. وتضيف راشد لم: أزر معرضاً حتى التحقت بالعمل في إحدى الجهات التي تهتم بعرض الكثير من اللوحات الفنية على الحوائط وفي الطرقات، ما دعاني إلى التأمل بها وتذوقها والسعي لمعرفة المزيد عن هذا النوع من الفن، وكان من الطرق التي اتبعتها الاهتمام بحضور المعارض الفنية وتتبع أخبار الفنانين والرسامين عبر الأخبار في الصحف واقتناء المجلات المتخصصة وبعض الصور الفنية في المنزل، فعرضها وجهني إلى اقتنائها والاهتمام بها. أحمد سمير أحد الموظفين بالشؤون القانونية والمراجعين لإحدى الدوائر الحكومية يقول: لم أكن أهتم كثيراً بالمعروض من اللوحات الفنية على الحوائط وما تحتويه المؤسسات الحكومية من أعمال فنية، خاصة أنني كمراجع لا أهتم كثيراً بالتفاصيل لكثرة الأماكن التي أمر بها، لأنني أقوم بالانتقال العابر بين المؤسسات والموظفين ولا تتاح لي الفرصة للمشاهدة والملاحظة. ويستدرك سمير: هناك بعض اللوحات الفنية تستوقفني أحياناً لفنيتها العالية ودقة القيام بها، ما يستوجب معه التأمل والانتظار قليلاً أمامها في حال انتظار أحد الموظفين. ويرجع سمير عدم اهتمامه بالنظر والتأمل إلى الأعمال الفنية المعروضة إلى الضغط الذي يتعرض له أثناء يومه من الانتقال من مكان إلى آخر ومن موظف إلى آخر لتخليص معاملاته الخاصة بالشركة التي يعمل بها، ما يجعل التركيز لديه لا يصل إلى نسبته الأكيدة 001٪ ويرى سمير أن وجودها في المؤسسات الحكومية لا يتيح لهذه الأعمال الاهتمام اللازم من قبل المشاهدين، فمكانها الحقيقي في المعارض الفنية والأماكن التي يتاح للمشاهد فيها التذوق والتحليق عالياً في عالم الخيال. خليفة الشيمي فنان وتشكيلي وموظف بدائرة التسجيل العقاري يقول: إن الكثير من المعارض الفنية التي تقام في الشارقة يكون هناك توجه بالاحتفاظ بعدد من اللوحات الفنية تشجيعاً للفنانين، وهناك توجهات أيضاً بأن توزع بعض هذه الأعمال على الدوائر الحكومية فتزين بها الحوائط والجدران للمباني الحكومية لتمنح الموظفين والعاملين بها والمراجعين القدرة على التذوق الفني. ويضيف الشيمي: تقدمت إلى مدير عام الدائرة باقتراح برسم عدد من اللوحات الفنية لمناطق الشارقة والأماكن التابعة لها، بما أن الدائرة التي أعمل بها خاصة بتسجيل الأراضي والعمران وبعد الموافقة قمت بعمل عدة لوحات فنية جذبت إليها الكثير من الموظفين ومرتادي المكان. ويرى الشيمي أن اللوحات الفنية التي قدمها شاركت في تنمية الذوق الفني لدى الكثيرين، لأن الكثير من المشاهدين يستوقفونه مستفسرين عن مضامينها ما يدل على أن هناك اهتماماً خاصاً بهذا الأمر. يضيف الشيمي: قمت بعدد من الأعمال الفنية في الشارقة وكان أحدثها الكتابات على النصب التذكاري للشارقة عاصمة الثقافة الإسلامية على طريق الذيد، بجانب الاشتراك في الكثير من الأعمال الفنية في عدد من الجهات الحكومية بالإمارة الباسمة. ويقول الشيمي إن أكثر من 55 لوحة فنية لفنانين معروفين تتزين بها الجامعة القاسمية، ودائرة المالية المركزية بالشارقة وهي طريقة مثلى لتنمية الذوق العام لدى الموظفين والمراجعين للدوائر الحكومية والشعور بالجمال والروعة. حمد المزروع: توجه يتناغم مع طابع الإمارة قال حمد المزروع مدير عام دائرة التسجيل العقاري بالشارقة: في الدائرة الكثير من اللوحات الفنية ولها أثرها الإيجابي على أداء الموظفين، وتمتاز بوجود عدد من اللوحات الفنية القيمة التي تعبر عن مشاهد مختلفة من الشارقة، يمتزج فيها البحر بالصحراء وبشموخ القلاع والحصون التي امتازت بها الإمارة تاريخياً، كما تستعرض اللوحات جمالية الخط العربي وفن الزخرفة الإسلامية الذي يدخل في تصميم مبنى الدائرة ويزين ردهاته وأسقفه، وهو الطابع المعماري الذي تتميز به الشارقة، وتحرص الدائرة على توفير بيئة عمل إيجابية وملائمة للموظفين والزوار على حد سواء. وعن اللوحات التي تعرض بمبنى التسجيل العقاري قال المزروع: رسمت خصيصاً للدائرة عند انتقالها لمقرها الجديد في منطقة الليّة، وهي من إبداع موظف الدائرة الفنان خليفة الشيمي، حيث ارتأت الإدارة استثمار المساحات في الدائرة لعمل معرض فني وتاريخي دائم، نستعرض فيه جانباً من حركة التوثيق في الإمارة لأكثر من 100 سنة من جانب ونمتع أعين الجمهور وذائقته بجمال الأعمال الفنية من جانب آخر، وكثيراً ما نستقبل وفوداً سياحية تنبهر بجمالية المبنى وتفاصيله المعمارية وقبته المزخرفة ونوافذه المعشقة بالزخرفة الإسلامية، حيث أضحت الشارقة لوحة فنية متكاملة، تمتزج فيها العمارة الإسلامية الأصيلة بروح المعاصرة والتطور. وأضاف المزروع: لا يقتصر العرض على اللوحات الفنية الخطية والكتابية فقط ولكن هناك أيضاً في البهو الكثير من الوثائق التاريخية المعروضة للجمهور، والغرض منها توجه الزوار إلى الاهتمام بالموروث الثقافي والاجتماعي للشارقة، حيث تمثل هذه الوثائق سجلاً تاريخياً لحركة التوثيق وتطورها، وكانت توثق العقود سابقاً بصيغ بسيطة عند القاضي، وبناء على توجيهات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، أقيم المعرض الدائم للوثائق التاريخية الخاصة بالسجل العقاري في مقر الدائرة، وصنفت حسب الفترة الزمنية التي وثقت بها، فهناك وثائق تعود ل100 عام ووثائق تعود إلى 80 عاماً، وأخرى ل70 عاماً، وسيلاحظ الزائر التطور التاريخي في توثيق عقود البيع والشراء حتى تأسيس مكتب التسجيل العقاري في عام 1972م.