كانت إيران أيام الشاه تعيش حالة تحرر أخلاقي على مستوى القوانين والأنظمة، كما على مستوى التوجّه الرسمي الذي يدعم مناشط إعلامية واجتماعية مدنية، يراها كثير من الإيرانيين خارجة عن مقتضيات الدين والأخلاق التقليدية المتوارثة عن الأسلاف. وقد درج منتقدو هذه الحالة من التيارات المحافظة – كما هي عادة التقليديين في كل مكان - على توصيفها بأنها حالة: انحلال أخلاقي، مدفوعة بسياسة عُليا تنتهج التغريب صراحة؛ للقضاء على الدين. وهم يؤكدون هذا الاتهام بوقائع وتصريحات موثقة، تؤكد أن ذلك الانفتاح التحرري لم يكن تحللا تلقائيا نتيجة الانفتاح الكبير على الغرب، وإنما هو سياسة مقصودة، يُراد منها إخراج المجتمع الإيراني المتدين المحافظ من دينه ومن نظامه الأخلاقي، ووضعه في سياق نظام أخلاقي آخر مختلف عنه أشد ما يكون الاختلاف. طبعا، في مثل هذه الأجواء التزمتية يحضر الانفتاح كتحدٍّ، ولكن يجري قمعه باستمرار. هناك محاولات تحررية، ولكن هيمنة التيار المتطرف المتزمت على مفاصل السلطة يقف بالمرصاد لأية محاولة جادة. ما يعني أن مسيرة التزمت يعتمدها المحافظون أكثر من مجرد خيار؛ لتكون ضمانة للاستمرار السلطوي. لا شك أن ثمة مظاهر انحلالية معلنة، كانت جارحة لمشاعر الإيرانيين أيام الشاه. الأفلام الجنسية التي كانت تعرض على قناة رسمية من داخل إيران، وسوق البغاء الذي تضخّم كثيرا في العقد الأخير قبل الثورة، وأصبحت بعض مظاهره علنية؛ وكأنه تجارة مشروعة في العرف الأخلاقي، ومسيرة تحرير المرأة التي كان كثيرون يرونها تجاوزت حدود المقبول به اجتماعيا، وخاصة عندما تكون بعض الخيارات الفردية لبعض النساء جارحة بخروجها المستفز على المستقر عرفاً، كل ذلك استفزّ الضمير الديني والأخلاقي، وصنع حالة غضب لم تقف عند حدود رجال الدين المتزمتين، بل تجاوزتهم، وأصبحت حالة غضب وتذمر وشكوى عامة، تسربت – بمستويات متفاوتة - إلى معظم الشرائح الاجتماعية، أي إلى الشرائح التقليدية التي كانت تضم معظم أطياف الشعب الإيراني. هذا لا ينفي أن رجال الدين بقدرما كانوا شركاء في الغضب، وبقدر ما كانوا غاضبين حقيقة؛ بقدر ما نفخوا – عمدا - في هذا الغضب، واستثمروه لصالحهم سياسيا، وذلك من أجل إشعال الثورة التي ستطيح بالشاه، وتنصّبهم قادة وأوصياء على الشعب بسلطات غير محدودة، تفوق سلطات الشاه اللامحدودة. بعد نجاح الثورة، وبدافع ديني لا ريب فيه، ثم بدافع سياسي اقتضته طبيعة المحفزات المسبقة للثورة، وشعاراتها المعلنة، وضغطت الوقائع المستجدة باتجاهه؛ قاد رجال الدين حملة على كل المظاهر الاجتماعية التي يرونها – وفق تصورهم الخاص - مخالفة للدين، وتمادوا في تطبيق أشد الرؤى المحافظة على المجتمع قسرا، محاولين نقل المجتمع - بحزمة من القوانين الصارمة أخلاقيا - إلى مجتمع أخلاقي يتفق وتصوراتهم عن المجتمع الطهراني، حتى ظهروا - بردة فعلهم العنيفة هذه - وكأنهم يمارسون انتقاما من المرحلة السابقة للثورة، تلك المرحلة التي ينظرون إليها بوصفها استثناء غير أخلاقي في حياة الإيرانيين، استثناء يجب استئصاله ولو بانتهاك الخصوصيات الفردية، بل ولو بإلغائها؛ لتكون خيارات الولي الفقيه، حتى في تفاصيلها التزمتية، هي خيارات الملايين، ومن يخرج عليها يخرج على الدين والوطن والأخلاق، وتبعا لذلك يستحق التعنيف والعقاب. كان بإمكان حكومة رجال الدين أن تتخذ حلا وسطا، فلا تبقي على الحالة السابقة التي كان الانحلال الأخلاقي فيها يجرح المشاعر الاجتماعية بإعلانه الصريح عن نفسه، وفي الوقت نفسه لا تلزم المجتمع كله بخياراتها التزمتية الخاصة التي إن اقتنع بها البعض، فهناك كثيرون لا يرون وجوبها؛ فيرفضونها، أو يرون وجوبها، ولكن يعتقدون أن تطبيقها أو عدم تطبيقها منوط بهم كأفراد، فلا أحد من حقه أن يجبرهم على شيء؛ حتى وإن كان طاعة، ولا يمنعهم من شيء؛ حتى وإن كان معصية، إلا ما فيه حَدٌّ صريح في صحيح الدين. لقد اختار رجال الدين؛ من أجل التأكيد على مشروعهم وعلى مشروعيتهم، أن يأخذوا بأشد الآراء تزمتاً. أصبح التزمت الأخلاقي هو القانون الحاكم بعد الثورة. أصبح رجال الدين يُتابعون التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، ويرصدون حتى أصغر الأخطاء، أو ما يعتقدون أنه أخطاء. يقول فهمي هويدي - واصفاً انتفاضة التزمت -: "فخلال الأشهر الأولى للثورة لم تسلم دور السينما والمسرح من غضب الجماهير الثائرة التي هاجمتها وخرّبت معظمها، باعتبارها رموز الافساد والتحلل". ويقول: "في عام الثورة الأول احتل الناس مبنى التلفزيون، لأنهم اعتبروا برامجه متجاوزة للإطار الإسلامي، قامت الدنيا ولم تقعد، لأن مدير التلفزيون سمح بعرض شريط سينمائي ظهرت فيه امرأة سافرة". ثم يصف إلى أين وصل الهوس بل الجنون الرقابي الذي باتت تتنفسه حتى أبسط الأشياء: "وقدمت عريضة احتجاج بطول 50 مترا للإمام ضد وزير الإرشاد بسبب هذه الواقعة". (إيران من الداخل، فهمي هويدي، ص 183). ويُرجع هويدي هذه التصرفات التزمتية إلى العقلية التقليدية لرجال الحوزات الذين كانت لهم مواقف متطرفة من التلفزيون منذ ظهر في عالمهم؛ كما هو حال الفقهاء المتزمتين في كل البلاد الإسلامية، أولئك الذين يستريبون بكل جديد وغريب. إن هويدي يصف حالة ليست غريبة علينا في بعض بيئاتنا المتطرفة، خاصة عندما يتحدث عن الموقف من التلفزيون في مدينة قم. يقول: "وكان الفقهاء يقاطعونه ويحرمون إدخاله إلى بيوتهم. ويذكر في هذا الصدد أن كثيرين من سكان (قم)- ممن لهم علاقة بالحوزة العلمية، كانوا يخفون هوائيات التلفزيون عندما يطلع النهار، بينما يعيدون تركيبها أثناء الليل" (إيران من الداخل، فهمي هويدي،ص 183). وفي ص184و185 ينقل هويدي عن الخميني في تحرير الوسيلة 2/629 أنه يرى تحريم التلفزيون وتحريم بيعه إلا لمن يُطمأن له بعدم استعماله في المحرمات، ويجعل من جملة المحرمات سماع الغناء، ويقول – أي الخميني - صراحة: "يحرم استماع الغناء ونحوه من الأجهزة مثل الراديو وغيره سواء أذيعت مباشرة أو بعد تسجيلها". هذه هي الرؤية الخمينية التزمتية التي سادت إيران بعد الثورة. وقد تم تصدير هذا التزمت – بدرجات متفاوتة – من قبل المتحمسين للرؤى الخمينوية في أكثر من بلد عربي. "وقد ارتبطت هجمات على دور سينما ومحلات بيع خمور في الأراضي المحتلة [= فلسطين] بشعارات الخميني وصوره"(إيران، دراسة عن الثورة والدولة، وليد عبدالناصر، ص85). وقد أصبح هذا التزمت إرثا يُتواصى به، ويطغى أينما طغت الخمينوية؛ حتى تحول شَطْر بيروت الجنوبي إلى مدينة شعارات وأحزان، بعد أن كانت فضاء مفتوحا للأفراح. التزمت يتناسل – ثقافة وأنظمة - في أعقاب المُريدين، إذ رغم تراجع هذا التزمت قليلا بعد موت الخميني، إلا أن تياره العام بقي يحكم – بقوة القوانين – حياة الإيرانيين إلى اليوم. فحتى المرشد الحالي/ خامنئي يرى حرمة الموسيقى، ففي خطابه الذي أقال فيه محمد هاشمي عن هيئة التلفزيون نبّه إلى أوجه القصور، وسمح بالموسيقى التقليدية الإيرانية، أما بقية الأنواع فحرام (إيران، دراسة عن الثورة والدولة، وليد عبدالناصر، ص113). أي أن الخميني بقي حيا وإن مات، إذ هو إيديولوجيا حاكمة، قبل أن يكون زعيما بكاريزما طاغية، تختطف بسحرها إرادة الملايين. هكذا أصبحت الخمينوية حالة. وعندما نعي ذلك ندرك أن حازم صاغية لم يجانبه الصواب عندما قال: "الخمينية، في صرامتها الأخلاقية، هي أكفأ من يُنصّبُ الحرس الأبوي على نسائ(نا) وشرف(نا)، وأعراض(نا) من انتهاكات رجال..." (ثقافات الخمينية، حازم صاغية، ص36). فهذا التزمت الذي تعيش المرأة بؤسه الأعظم، والذي يبدو تسلطا ذكوريا، هو في الحقيقة تسلط يبدأ من هذا المنحى الأبوي على مستوى العلاقة بين الرجل والمرأة؛ لينتهي بهياكل تسلطية أوسع وأشمل، يقمع فيها الجميعُ الجميعَ، ومن خلالها تسود بين الأفراد والبنى الاجتماعية علاقات التراتب والاضطهاد والقهر؛ بدل علاقات المساواة والتراحم والتفاعل الإنساني. إن المرأة هي الضحية لهذا التزمت الأخلاقي بالدرجة الأولى، هذا التزمت الذي حاصرها؛ فحصرها في مجالات عمل ضيقة ومحدودة، بعد أن كانت كل المجالات مفتوحة أمامها قبل الثورة المتأسلمة التي تمارس قمع النساء باسم الحفاظ على الأخلاق. لم يدخر رجال الدين وسعا في تفصيل الخطة الحياتية للنساء، بل لقد حددوا حتى تفاصيل ما تلبسه من أعلى الرأس إلى أسفل القدم، وفرضوه قانونا عاما مُلزما. يقول غسان طعان: "لقد لاحظ المسافرون إلى إيران في سنوات العقد الأول على قيام الحكومة الإسلامية، أن قمع التغريب كظاهرة قد تجمع في أزياء النساء، ونشاطهن داخل المجتمع، وفي الشارع والمدرسة، وأماكن العمل"... " كما جرى جمع كل مظاهر الاستقلالية بربطها بالفساد والانحلال الخلقي"(التغرُّب في الثقافة الإيرانية الحديثة، غسان طعان، ص218). طبعا، في مثل هذه الأجواء التزمتية يحضر الانفتاح كتحدٍّ، ولكن يجري قمعه باستمرار. هناك محاولات تحررية، ولكن هيمنة التيار المتطرف المتزمت على مفاصل السلطة يقف بالمرصاد لأية محاولة جادة. ما يعني أن مسيرة التزمت يعتمدها المحافظون أكثر من مجرد خيار؛ لتكون ضمانة للاستمرار السلطوي. فمثلا رئيس بلدية طهران السابق: غلام حسن كرباستشي (الذي كان أحد الملالي في شبابه، ثم نزع الجبة والعمامة)، نجد أن الرجعيين يكرهونه، لأنه ديناميكي، مدني، غربي الأفكار..إلخ، وقد أنشأ ملاعب وصالات لعرض الفنون وحدائق عامة، وأزال من الحيطان الشعارات الثورية..إلخ، وأنعش أفقر منطقة في طهران (منطقة المسالخ).. وأنشأ مجموعة من السوبرماركتات كتحدٍ للبازار الإيراني.. (مصاحف وسيوف، رياض الريس ص22). وهكذا نرى كيف أن التنمية الحقيقية ليست هي المعيار للصلاحية، خاصة إذا ما تعارضت مع خطط التزمت الديني الذي يعني - في دلالته الأعمق والأهم-: صادق الولاء لسلطة الفقهاء. في الأخير، لن نعرف مدى قسوة هذا التزمت المحروس بالقوة؛ حتى نعرف أن "حكومة الثورة هيأت 300000 من مليشيات الباسيج من أجل دفع الغزو الثقافي عن إيران، إضافة إلى 300000 عنصر من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتأكيد الهوية" (التغرُّب في الثقافة الإيرانية الحديثة، غسان طعان، ص215). إنها أرقام مخيفة؛ خاصة عندما تكون كل هذه الكوادر مهمتها الرقابة على تفاصيل سلوكيات الناس. ولتعرف حجم المأساة؛ تخيّل – مجرد تخيل – كيف أن كل هؤلاء يصولون ويجولون لإرساء قيم التزمت، ومن ثَمّ لتعزيز هيمنة رجال الدين المتزمتين، هؤلاء الذين أصبحت تهويماتهم الإيديولوجية هي أساس النظام الأخلاقي للمجتمع الإيراني.