غَفِلَت عَنيّ المَنُونُ فغنيـ/ـتُ، ولحنُ الحياةِ لحنٌ قصيرُ/ وبِنَفسي قِيثارَة تتشكَّى/ وأنا الدَمعُ والأسَى والشُعورُ»... أبدأ بهذين البيتين لهذه الدراسة الأدبية الموجزة عن الشاعر أنور العطار، وعن ديوانه الأول «ظلال الأيام»، فهذان البيتان الوجدانيان يعطيان بحق صورة صادقة عن شاعرنا، إذ عاش في هذه الدنيا نحو 59 عاماً، وهو يحمل شكواه ومآسيه ومشاعره الجياشة، التي هي صدى ولا شك لمآسي أمته ولآلامها، نقلها جميعها في قوالب شعرية متنوّعة تلامس حشاشة القلوب وتعتمل في النفوس لواعج الأسى والحسرة، وبهما قدم لديوانه الأول «ظلال الأيام»، واصفاً فيهما ما يختلج في نفسه من مشاعر الحزن، مشبهاً إياها بالقيثارة التي يكتنزها في أعماقه، التي غنى بها لحن الحياة القصير في غفلة من الموت... وسنأتي بأسباب هذا الحزن الذي كان دفين أعماق هذا الشاعر الموهوب وذلك في عرضنا لهذه الدراسة الموجزة. «في شهر يوليو (تموز) عام 1392هـ الموافق لـ1972، خبت شعلة شاعر رقيق، مرّ فوق الأرض كنسائم الربيع، وكأنه طيف عابر فما درى بموته أحد، وربما كان مؤملاً له أن يملأ بحياته الدنيا أو يشغل بها الناس»، بهذه الكلمات الصادقة نعاه صديقه الأديب والصحافي السوري عبدالغني العطري.. كان العطار رائد التجديد الشعري في سورية، فقبله كان الشعر حبيس التعابير الموروثة، والأطر التقليدية المتداولة وكانت ظلال الجمود والرتابة تخيّم على القصيدة فتخنق مشاعر الشاعر ولا يستطيع أن يتحرر من أقفاصها. ... في عام 1331هـ الموافق لـ1913 ولد أنور في مدينة دمشق، وفي عام ولادته أعلن الدستور العثماني، وبدأت تباشير الحركة القومية العربية تلوح في الأفق السياسي، فعاش طفولته وهو يسمع ويشهد صور التعامل القومي العربي لإزاحة طغيان الاستبداد العثماني عن العالم العربي، وكان في الـ12 من عمره حين بدأت موجة الاستعمار الغربي تطوق عنق بلده، وتبدد آمال العرب معلنة بداية عودة الغرب... ويدخل العطار مكتب عنبر (وهو المدرسة الثانوية الوحيدة آنذاك في دمشق)، ويتلقى تعليمه الثانوي من هذه المدرسة التي تخرّج منها صفوة رجال العهد الوطني في القرن الماضي من كتّاب وشعراء ووزراء وصحافيين، ويُتاح له أن يجمع بين الثقافتين العربية لغته الأم، والفرنسية التي فرضتها مناهج الانتداب الفرنسي على سورية آنذك، ثم ينتسب إلى معهد دار المعلمين ويتخرج منه لينتسب إلى جامعة دمشق ويحوز إجازة في آداب اللغة العربية... كما تأثر العطار بثقافة أساتذته الأدبية ومنهم: الشاعر محمد البزم، واللغوي عبدالقادر المبارك، والأديب سليم الجندي، وغيرهم. ويبدو أن دراسته الثانوية مكنته أن يطلع على بعض أعلام الأدب الفرنسي من أمثال لامارتين وألفرد دو موسيه وموليير وراسين، فحفظ الكثير من أشعارهم وترجم عنهم الكثير. معالم الرومانسية في شعره ... من أبرز مظاهر الإبداعية في شعر العطار تمجيد الطبيعة والهرب إليها من متاعب الحياة ومن إخفاقاتها، والطبيعة عند أنور العطار عالم من الأحلام والرؤى يمتزج بسحر جمال بيئته التي نشأ فيها، فهو ابن دمشق ونزيل غوطتها الفيحاء، والمتردد على لبنان لوحة العطر والجمال، والمقيم في بغداد المأخوذ بسحر نهريها الخالدين دجلة والفرات، والأستاذ الجامعي في الرياض، ولذا احتلت القصائد التي وصف بها الطبيعة حيزاً كبيراً من ديوانه الأول «ظلال الأيام». وإن المرء ليعجب من فرح الشاعر واطمئنانه ونسيانه لكآبته حين يصف دمشق وغوطتها، في حين تتجلى شكواه وأحزانه في قصائد أخرى وصف بها الطبيعة، شأنه شأن الشعراء الرومانسيين، وكأنه اتخذ من دمشق وغوطتها عالمه المسحور يفر إليه كلما أثقلته الأحزان فهي غابه السحري وعالمه المنشود يفيء إليها من مرارة الواقع وأحزانه. أنور العطار، شاعر الحزن الألم، يرفده طبع هادئ حزين، وانطواء على الذات، يعززه ما عانى في حياته ومجتمعه من نكران لشأنه... شأنه شأن الشعراء الإبداعيين... نراه دوماً وهو يمجد الألم ويجسد فيه لذته: «لقد صاغني الله جمَّ الشجون/ ويأبى فؤاديَ إلا المرحْ». ولم يكن ألمه وتعبيره عن ذلك الألم في شعره تقليداً بل كان صادراً عن ذاته وشخصيته. يقول الشيخ علي الطنطاوي: «ما مضى أنور العطار على الطريق الذي فتحه له من قبله، بل على طريق شقه هو لمن بعده...». والشاعر أنور ليس بحاجة إلى أن يحدثك عن فلسفة الغناء، ففي شعره تسحرك المعاني وصدقها، وتحس باللحن في أوزانه، وبالغناء في ثنايا كلماته. على أن انصراف العطار إلى تمجيد آلامه وفراره إلى الطبيعة هرباً من العالم الذي حوله لم يصرفه من الاهتمام بشؤون الحياة، فله قصائد وطنية وقومية، وله قصائد وجدانية في مناجاته لخالقه جلَّ جلاله ودينية في مدح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وإن كان مدحه للرسول صلى الله عليه وسلم، يقترب من المدائح النبوية التقليدية ولاسيما همزية شوقي وميميته، فهو يحاكي تلك القصائد لفظاً ومعنى، مع أنه يسكب فيها من أنفاسه ومن عبقريته الشِعرية الكثير. كان الشاعر العطار يعتمد في شعره على الإحساس المرهف وتخيّر الألفاظ الموحية الرقيقة، واعتبر عند النقاد مجدداً، مع أنه لم يخرج في شعره عن عمود الشعر العربي الأصيل، وحافظ على صفاء ديباجته، وكان أميناً لصياغاته الموروثة، وإنما كان تجديده ينحصر في ابتداع أبنية ناعمة فيها من السلاسة والرقة والخيال الراقي والعاطفة الصادقة ما يذكرنا بشعر البحتري، لذا كان يوصف العطار دوماً بأنه: بحتري الأسلوب. وصقلت أيضاً البيئة الدمشقية الحضرية الناعمة ذوق الشاعر أنور، فأسر قراءه برقة مشاعره وصفاء ذوقه وحسن تخيره للأفكار والأحاسيس، يصوغها بأشكال متنوعة ويسهل في تناولها، لذلك جاء شعره سهلاً ممتنعاً كما توصف البلاغة.