×
محافظة المدينة المنورة

إخماد حريق مستودع في صناعية المدينة الثانية

صورة الخبر

مرت الذكرى الثانية والعشرون على رحيل المفكر والعالم الجغرافي والاستراتيجي الكبير جمال حمدان مروراً عابراً، قاعة فارغة إلا من المتحدثين، ضمت احتفالية متواضعة، نظمتها دار الكتب والوثائق في مصر، احتفاء بصاحب "شخصية مصر"، وهو الذي كان يقول: "تخصصت بلادنا في إهالة التراب على عباقرتها وهم أحياء وتمجيدهم وهم أموات"، لنثبت لأنفسنا من بعده أننا لم نحظ حتى بشرف الاحتفاء بواحد من كبار عباقرتنا كما يجب أن يكون الاحتفاء . جمال حمدان، الذي ولد في الرابع من فبراير/شباط ،1928 لقي ربه يوم 17 إبريل/نيسان 1993 في حريق غامض، يرى البعض أنه لا يخلو من شبهات اغتيال، خاصة مع اختفاء بعض أوراقه ومخطوطات كتب جديدة له، وهو طوال هذه المدة لم يعرف الغياب منذ رحيله الفاجع، وربما ازداد حضوراً بعدها، والأجمل أن حضوره يتأكد بين أجيال جديدة من المصريين، ظهر ذلك جلياً في الاحتفاء الخاص بكتبه خلال دورات معرض القاهرة الدولي للكتاب، الأمر الذي أكد باستمرار أن مثقفاً في حجم وقيمة وقامة جمال حمدان لا يزيده الموت إلا توهجاً في الذاكرة الثقافية المصرية، ولا يزيده الغياب إلا حضوراً في وعي أمته . مشهد جنازته الصغيرة جاء دليلاً فاجعاً على صحة ما كان يردده، خرجت إحدى الصحف بخبر وفاته في ركن منزو يقول: "انفجار أنبوبة بوتاجاز في دكتور جغرافيا"، وكان الخبر مملوءاً بالأخطاء المطبعية والعلمية أيضاً، ومن دون صورة فوتوغرافية واحدة، محرر الخبر يبدو من صياغته أنه مجرد محرر حوادث، لم يعرف قدر الرجل الذي مات، ولا عرف أصلاً من هو، ولا ماذا قدم لمصر، والتفت في جنازته صديق من المشيعين إلى جاره بعد زفرة ألم قائلاً: والله هذه جنازة تليق حقيقة بمواطن شريف . . فلا مسؤول، ولا كاميرات، ولا أضواء . ظل جمال حمدان طوال حياته متعبداً في محراب مصر، مبتعداً كالنجم القطبي لا يتحول عن مبادئه، تاركاً وراءه ضوءه ليسترشد به السائرون في الطريق إلى الوطن . . وحين خطر للأستاذ محمد حسنين هيكل أن يهدي كتابه: "أكتوبر 73 السلاح والسياسة"، وهو الجزء الرابع في سلسلة "حرب الثلاثين سنة" إلى الأستاذ الدكتور جمال حمدان صاحب أعظم المؤلفات في مجاله العلمي: "شخصية مصر - دراسة في عبقرية المكان"، حاول الأستاذ هيكل أن يربط بين جمال حمدان وكتابه الكبير وبين شيخ التنوير الجليل رفاعة رافع الطهطاوي مؤلف كتاب: "تخليص الإبريز في وصف باريز" . كتاب الطهطاوي- حسب ما رآه الأستاذ هيكل- يحكي رؤية أزهري ريفي للحضارة الغربية، رؤية مصري خام عبر البحار إلى باريس وألقى نظرة على ما رأى، ثم شهق مدهوشاً منه، وكانت القيمة الكبيرة لهذه الشهقة أن صاحبها لم يقصر انبهاره على شكل ما رأى، وإنما غاص فيه، محاولاً أن يلمس أعماقه، وأن يتعرف إلى جوهره . أما كتاب حمدان الكبير فقد قدم دراسة طالب علم مصري عبر البحار إلى بريطانيا ملتحقاً بجامعة "ريدنج" بقصد التخصص في الجغرافيا، ومن هناك تعمق أكثر في تأمل وطنه، وإعادة اكتشافه، ليتعرف إلى جوهره . ورغم أننا نرى أن الربط بينهما: بين الطهطاوي وحمدان، جاء متعسفاً وربما شكلياً، إلا أنني أتجاسر على الربط أكثر فأكثر بين سلسلة: "حرب الثلاثين سنة"، وبين كتاب "شخصية مصر"، والربط عندي بين مؤلفيهما أكثر موضوعية، وكأنه رباط بين الجغرافيا والتاريخ، وكلاهما شاغله الرئيسي الجغرافيا والتاريخ . أحدهما، قضيته الجغرافيا وعبقرية المكان فيها، يقرأ ثوابتها من نافذة التاريخ، وتحولاته، والآخر، قضيته التاريخ ووثائقه، في رواية الصراع على مصر والمنطقة، يطل على وقائعه من فوق تضاريس الجغرافيا وثوابتها . ربما فات على الأستاذ هيكل نفسه أن يربط بين كتابه الذي خطر له أن يهديه إلى د . جمال حمدان، وهو عن "أكتوبر 73 السلاح والسياسة"، وبين مؤلف آخر رائع لحمدان هو كتاب: 6 أكتوبر- في الاستراتيجية العالمية"، وفيه أكد حمدان في سفره الرائع: "ليس الذي بيننا وبينهم أربع حروب، بيننا حرب طويلة واحدة، بها أربع معارك حتى الآن، حرب تدور على المستوى السياسي والعسكري والحضاري"، وبينما رصد كتاب الأستاذ هيكل صراع الإرادات بين الساسة على الجانبين في حرب أكتوبر ،73 راح الدكتور حمدان في كتابه عن الموضوع نفسه يرصد فيه صراع الإرادات بين الشعب العربي وبين (إسرائيل)، وأكد أن العامل البشري أهم من العوامل الأخرى، من الزمن والطبيعة والتكنولوجيا، وأكد "أن العرب في أكتوبر 1973 حققوا نصرهم بفضل العامل البشري أساساً، كماً وكيفاً، سيطروا على التكنولوجيا الحديثة أولاً، كما سخروا عامل الوقت لمصلحتهم، العالم كله متفق الآن على أن الزمن لم يعد يعمل لمصلحة "إسرائيل"، إنه أصبح يحارب في صف العرب . وواجبنا ألا نسمح بأي تغيير في هذا الاتجاه، وأن نضاعف من تسخيره لمصلحة قضيتنا ومصيرنا، علينا أن نتم ما بدأناه"، وتبقى قيمة ما جرى في أكتوبر 1973 عند حمدان أننا وإن "لم ننتصر على "إسرائيل" بالضربة القاضية لكننا انتصرنا بالنقط، وامتلكنا مفتاح الأمل" . وكما كان الأستاذ هيكل يكتب مجموعة كتبه في سلسلة: "حرب الثلاثين عاماً"، في محاولة للرد على أكبر عملية تشويه وتسفيه وتسطيح لكل ما جرى في زمن الرئيس جمال عبد الناصر، فوثق كتبه، وحرص على أن يكون توثيقه من المصادر الأجنبية، وعلى الوثائق المصرية، نجد أن كتاب: "شخصية مصر"، قد كتبه الدكتور جمال حمدان مرتين، حيث تمت الصياغة الأولى ل"شخصية مصر" في ،1967 وخرجت في كتاب صغير، (300 صفحة من القطع المتوسط) وكأنه الرد الموضوعي على ما جرى في أعقاب هزيمة يونيو، ثم جاءت الصياغة النهائية للكتاب في أربعة أجزاء 1981 إلى ،1984 في مواجهة الارتداد على كل ثوابت الجغرافيا وحقائق التاريخ، هذا الذي قاد خطى الرئيس الأسبق أنور السادات لتوقيع معاهدات الصلح مع العدو الصهيوني، وكأن حمدان أراد بالتوسع في كتابه حول شخصية مصر ويرتفع بعدد صفحاته من 300 صفحة ليصل مجموع صفحات هذا السفر الضخم إلى أربعة آلاف صفحة من القطع الكبير . كما أراد هيكل أن يكشف المؤامرة على وعي الأجيال القادمة من المصريين في سلسلة كتبه حول الحرب على مصر، كتب حمدان "شخصية مصر" في وقت كان الجدل على أشده حول انتماء مصر وهل هو للشمال الأوروبي المتوسطي، أم لإفريقيا أم لغيره، فخرج حمدان بمقولة إنه إذا كان أجدادنا فراعنة فإن آباءنا عرب، وهي رؤية لتجدد الهوية المصرية المركبة، وبدا أن المفكر الكبير أراد أن يعيد كشف مصر أمام نفسها أولاً، وهو الذي كان يكرر: "إن ما تحتاج إليه مصر أساساً إنما هو ثورة نفسية، بمعنى ثورة على نفسها أولاً، وعلى نفسيتها ثانياً" . كان يريد أن يقول إن أي تغيير جذري في العقلية والمثل وإيديولوجية الحياة قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها . . ثورة في الشخصية المصرية وعلى الشخصية المصرية . . ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر . . وكيان مصر . . ومستقبل مصر . وربما يمكن فهم بعض ملابسات حياته الخاصة التي انقطع خلالها عن الحياة العامة بكل صورها إذا ما تأملنا عبارته المنسوبة إليه: "الجغرافيا لا تقبل شريكاً قط، لا في العلم ولا في الحياة: أنت محكوم عليك بالجغرافيا إلى الأبد وإلا خرجت من حوزة الجغرافيا، بمعنى لن تكون شيئاً مذكوراً في الجغرافيا إن لم تتفرغ لها تماماً العمر كله" . وقد أوضح في مقدمة سفره الموسوعي نظرته العميقة ل"الجغرافيا" التي تخصص فيها ليقول إنها "علم بمادتها، وفن بمعالجتها، وفلسفة بنظراتها" . وهو يصف كتابه الكبير في الصفحات الأولى منه بأنه ليس كتاباً في التاريخ، لكن في الجغرافيا التاريخية، ولا في السياسة، وإنما في الجغرافيا السياسية، ولا في فلسفة التاريخ، إنما في فلسفة المكان، المكان عنده ليس مجرد موقع جغرافي كما أن الزمان ليس مجرد تقلب القرون وتتابع الحوادث، فالجغرافيا عنده هي المكان في حالة حركة تاريخية، والتاريخ عنده هو الزمان حيث يحط على تضاريس محددة . وإذا كانت الجغرافيا السياسية في قول جمال حمدان "تكثيف استراتيجي للسياسة"، فالجغرافيا الاجتماعية في نظره "تكثيف استراتيجي لعلم الاجتماع"، والجغرافيا ككل كما يقول "علم استراتيجي"، وهو يرى أن الجغرافيا أقوى من التاريخ "لأن الجغرافيا تحكم وتصنع التاريخ ولكن التاريخ لا يحكم الجغرافيا ولا يصنعها"، معتبراً أن الجغرافيا "علم مفصلي ليس فقط بموقعها وسط العلوم الطبيعية والاجتماعية لكن أيضا بربطها بين الظاهرات المختلفة أفقياً ورأسياً"، ويتابع: "الجغرافيون بالضرورة تلاميذ كل المتخصصين الآخرين ابتداء من الجيولوجيا حتى التاريخ، لكن ماذا بعد هذه التلمذة؟ أليست إلا الأستذة، فبعد أن يأخذ الجغرافي عنهم يصبح في النهاية قائداً وأستاذاً لهم" . من الجغرافيا انطلق جمال حمدان إلى التاريخ، ومنهما حدد ثوابت موقفه، وحين وقف بشكل معلن ضد اتفاقيات "كامب دافيد"، لم يكن يعبر عن موقف سياسي آني أو مرحلي، بل كان ينطلق من ثابت جغرافي عنده، وهو الذي اتهم هذه الاتفاقيات بأنها تقضي على دور مصر العربي، فالجغرافيا عند حمدان كالتاريخ لا تعيد نفسها بالضبط، ولا الإقليم يكرر نفسه، ومن ثم فلا قانون للإقليم من حيث هو، ولذلك فإن دراسة الإقليم لا تقتصر على الحاضر، وإنما تترامى إلى الماضي وخلال التاريخ . سلام على عاشق الجغرافيا الذي قال عنها: "يموت الجغرافي الجيد وفي نفسه شيء منها"، سلام على أعظم من استخرج الحقائق من الخرائط، وهو القائل: "الخريطة لا تمنح أسرارها إلا لمن يعشقها"، سلام على صاحب الأفكار الخلاقة وهو ذاته صاحب عبارة: "الجغرافيا الفكرية هي وحدها الجغرافيا الخلاقة"، وسوف تبقى أفكاره الخلاقة تستعصي على الهزيمة، وسوف يبقى هو عصياً على الغياب .