لندن: عدنان حسين أحمد صدر عن مشروع «كلمة» في أبوظبي كتاب «الغنائيات» لويليام شكسبير، ترجمة الدكتور عبد الواحد لؤلؤة، الذي قدّم شروحا وتفسيراتٍ مستفيضة لكل غنائية على انفراد، مُعتمدا فيها على أفضل ما كتبه النقاد البريطانيون والمتخصصون في أدب شكسبير على وجه التحديد، أمثال دون باترسن، ستيفن بوث وكاثرين دنكان وآخرين لا مجال لذكرهم جميعا. ينقسم كتاب «الغنائيات» إلى أربعة أقسام رئيسة، وهي المقدمة الرصينة، وتراجم الغنائيات بالعربية، والنصوص الإنكليزية. هذا إضافة إلى الشروحات الوافية التي لم تترك شاردة أو واردة إلا وتوقّف عندها الباحث والمترجم عبد الواحد لؤلؤة المعروف بملَكته النقدية المرهفة. لا بد من الإقرار سلفا بأن هذه المراجعة لا يمكن أن تغطي الكم الكبير من المعلومات النوعية التي وردت في المقدمة والتراجم والشروح الدقيقة التي تنطوي على إحالات نقدية وفكرية وتاريخية تحلّ كثيرا من الإشكالات المتعلقة بالعاشق والمعشوق والسيدة السمراء التي سرقها المعشوق أو اللص الظريف من الشاعر، كما تسلّط هذه الشروح الضوء على بعض الاستنتاجات الخاطئة التي حاولت أن تلصق تهمة المثلية الجنسية بشكسبير، ولو كان كذلك لما قصّر حُسّاده ومنافسوه من الشعراء والكُتّاب المسرحيين في الترويج لهذه التهمة وتكريسها كحقيقة دامغة في حياته الشخصية. تشي المقدمة الشافية للؤلؤة بإعجابه الواضح بأستاذه الراحل جبرا إبراهيم جبرا الذي ترجم أربعين «سونيتة» فقط تاركا البقية الباقية لغيره من المترجمين، وحجته في ذلك «أنها تتطلّب الكثير من الشروح والتعليقات الأكاديمية التي تقتل الشعر فيها»، غير أن لؤلؤة لم يقتنع بهذه الإجابة فتحدّاه جبرا أن يقوم بهذه المهمة، كجزء من نشاطه الأكاديمي فقَبِل لؤلؤة بهذا التحدي، ولو بعد 30 عاما. أشار لؤلؤة في مقدمته إلى ترجمتين اثنتين فقط للغنائيات، وهما ترجمة جبرا وترجمة كمال أبو ديب، وحقيقة الأمر أن هناك ترجمة ثالثة اضطلع بها الشاعر والمترجم المصري بدر توفيق وجاءت تحت عنوان «سونيتات شكسبير الكاملة مع النص الإنجليزي»، كما ترجم الشاعر الراحل سركون بولص بعضا من سونيتات شكسبير، منتقدا فيها ترجمة جبرا لعدم مراعاته للسياقات اللفظية في هذه السونيتات، أو حتى في المسرحيات الشكسبيرية التي ترجمها. يشيد لؤلؤة بترجمة أستاذه جبرا ويصفها بأنها «أنيقة العبارة، دقيقة في فهم المعنى»، لكنه ينتقد توسّعه في العبارة الإنجليزية المكثفة لكي يجعلها مُستساغة في العربية. وقد اكتفى جبرا بهوامش قليلة عوضا عن الشروح الطويلة، كي يظل تركيز القارئ مُنصّبا على القصائد نفسها، لا على الشروح والإحالات الجانبية. يُعرِّب لؤلؤة كلمة سونيت بـ«الغنائية»، بخلاف بقية المترجمين العرب الذين يفضلون الاحتفاظ بالاسم الأصلي، وحجته الدامغة في ذلك أنها مشتقة من كلمة «Sonetto» الإيطالية، التي تعني بالعربية «الأغنية الصغيرة أو القصيدة القصيرة التي وُضعت للغناء». تعود الغنائية الإنجليزية شكلا ومضمونا إلى الغنائيات الإيطالية التي وضعها بتراركا، ثم نقلها شعراء إنجليز أمثال سير توماس وايات وإيرل أوف سري، ثم استعمل هذا النمط سير فيليب سدني إلى أن جاء شكسبير فكتب «154» غنائية مطوِّرا نظامها البتراركي الذي يتألف من «ثُمانية» و«سُداسية» إلى ثلاث رباعيات ومزدَوجة في ختام القصيدة، آخذين بنظر الاعتبار أن بتراركا نفسه قد استوحى ذلك من دانته أليغيري الذي كتب عددا من غنائيات الحب التي ظهرت في مجموعته الشعرية المسماة «الحياة الجديدة». يؤكد دانته بأن الشعر الإيطالي قد وُلد في صقليا متطورا عن شعر التروبادور، الذي كُتِب باللغة الأوكسيتانية في الجنوب الفرنسي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. أن أي دراسة رصينة عن شعراء التروبادور؛ سواء أكانت للدكتور لؤلؤة أم لغيره من الباحثين المنصفين تُبيّن أن الجد الأعلى للغنائية الإيطالية هو الموشّح، وقرينه الزجل الذي كُتب بعامية قرطبة في القرن الثاني عشر. تتبع لؤلؤة الشاعر جياكومو دا لينتيني الذي يُنسب إليه أول ظهور للغنائية في صقليا، والذي كان معجبا، مثل سورديلو، بغنائيات التروبادور بلغتها الأوكسيتانية المفهومة التي تتمحور حول مواضيع شديدة الشبه بما نجده في الموشحات والأزجال الأندلسية، كالحب الدنيوي، وموقف الشاعر من المرأة. وقد تبنى شكسبير هذا النزوع، بعد اطلاعه على ترجمة «وايات» و«سري»، ثم أخذها عنه «ملتن» و«جون دن» على امتداد القرن التاسع عشر، ثم أصبح نظم الغنائية نوعا من إظهار البراعة لدى الشعراء اللاحقين. قسم لؤلؤة الغنائيات الـ«154» إلى ثلاثة أبواب، معتمدا في هذا التقسيم على المواضيع التي يعالجها في كل باب. فالغنائيات من «1 إلى 17» يحثّ فيها الشاعر صديقَه الحبيب على أن يتزوج كي ينجب طفلا يحفظ ذكراه وجماله. أما الغنائيات من «18 إلى 126» فتتمحور حول الحب، وتذلل العاشق للمعشوق، وجمال المحبوب وخيانته، واختلاط الحواس، والقطيعة المفترَضة، والإلهام، والسهر، والخوف من الشيخوخة والفراق وما إلى ذلك. فيما تتحدث الغنائيات من «127 إلى 152» عن الخليلة السمراء التي تمتلك قدرا كبيرا من الفتنة والجمال. أما أبرز المواضيع التي عالجها الشاعر في هذا الباب، فهي عبودية الحبيب للمحبوب، واضطراب الرؤية، والشهوة الجنسية، والعيون القاتلة، وسهام الألحاظ وغيرها من المواضيع المستوحاة من الموشحات والأزجال الأندلسية. وضمن الباب الثالث أفرد لؤلؤة إطلالة خاصة على الغنائيتين الأخيرتين «153 و154» اللتين تماهيان بين الحب والشبق الجنسي. يؤكد لؤلؤة أن الباحثة المعاصرة كاثرين دنكن - جونز قد توصلت إلى أن هوية الشاب الأرستقراطي، محبوب الشاعر، هو إيرل أوف بمبروك. أما السيدة السمراء، فلم يجرِ تحديد هويتها. لا شك في أن السؤال المثير للجدل هو: هل كان غزل الشاعر بالشاب الأرستقراطي الوسيم دليلا على مثليته الجنسية أم لا؟ غير أن دراسة النصوص لا تعزّز مثل هذه الشكوك والتخرصات. فالشاعر يشجع الشاب الأرستقراطي على الزواج كي ينجب ولدا يديم مواصفات الأب الجمالية. وهذا الأمر يتعارض مع مثلية المتكلّم. غير أن الأبحاث الأخرى تكشف عن اكتظاظ القسم الأخير من الغنائيات بالإشارات الشبقية تجاه السيدة السمراء. ولكي نطوي سؤال المثلية الجنسية تماما، نستعين بما قاله الباحثان «إنكرام» و«ردباث» بأن العلاقة بين الشاعر والشاب كانت «عميقة.. مضطربة أحيانا، تنطوي على شيء من الافتتان الجسدي شبه الجنسي مصدره الشاب، لكن ذلك لا يعني بالضرورة حُبّ الذّكران بأي معنى فظيع». كما ينفي الباحث ستيفن بوث ما يثبت تهمة المثلية لدى الشاعر. توقف لؤلؤة عند بعض الهنات اللغوية التي ارتكبها كل من جبرا وكمال أبو ديب، منبها إلى أن لغة شكسبير قد تغيّرت عبر العصور، ولم تبقَ بعض المعاني على ما كانت عليه في العصر الإليزابيثي، فكلمة «pen» كانت تعني «ريشة» الرسام، وليس «قلما»، و«brave» كانت تعني «الجميل»، وليس «الشجاع»، و«bail»، كانت «يضمّ» أو «يغلّق» وليس «يكفل»، و«hue» الهيئة وليس اللون، و«argument» كانت تعني «موضوع» القصيدة وليس الجَدَل، و«modern».. «المبتذل» وليس «الحديث». ومن بين الهنات التي اقترح تعديلها لترجمة جبرا نذكر «بقلمك القديم».. «بريشتك القديمة»، «هول الإساءة».. «عبء الإساءة»، «مطلية بالعسجد».. «المذهّبة»، «التراب الثابت».. «الأرض الصلبة»، «سيّدها».. «زوجها»، «يكفل قلب صديقي».. «يضم قلب صديقي». أما الأخطاء التي وقع فيها كمال أبو ديب، فهي تقرب من الثلاثين خطأ، نذكر منها «النهار الشجاع».. «النهار الجميل»، «خبأهم الموت».. «طواهم»، «كوارس».. «جوقات»، «عار الزندقة».. «عار النغولة»، «أشهبان».. «كامدان»، «طاعوني».. «مصيبتي»، «مبتلاة بالترقّب».. «السهر». يتساءل لؤلؤة في خاتمة مقدمته عن السبب الذي دفع أبو ديب لأن يترجم السونيتات بأسلوب شعر التفعيلة؟ وهل القارئ العربي بحاجة إلى شعر موزون ومقفى مُترجَم عن لغة أجنبية؟ يعتقد لؤلؤة أن ما يحتاجه القارئ العربي هو الصور الشعرية، وما تنطوي عليه من استعارات ومجازات في قصائدهم، شرط أن تُترجم بأسلوب نثري واضح لا لبس فيه، فالأوزان الشعرية العربية المقحمة في هذا المجال تدفع المترجم إلى التوسّع في التفسير على حساب النص الأصلي، وإرضاء لتفعيلات البحور العربية، وهو ما فعله فيتزجيرالد وأحمد رامي في ترجمة «رباعيات الخيام»، لكنهما ابتعدا عن الأصل إرضاء للوزن والقافية. بقي أن نقول في خاتمة هذه المراجعة إن ترجمة الدكتور عبد الواحد لؤلؤة في رأينا هي الأولى من نوعها في الدقة والإتقان، على الرغم من صدور ترجمات سابقة لها، كونها تتيح للقارئ أن يطلع على هذه المقدمة الفاتحة للشهية، وأن يقرأ الغنائيات بنصوصها العربية والإنجليزية، وأن يستزيد من الشروح المستفيضة لكل غنائية على انفراد.