×
محافظة المنطقة الشرقية

صندوق النقد الدولي: توقع عجز 16.7 مليار دولار برصيد الحساب الجاري في السعودية وعمان والبحرين

صورة الخبر

وترجّل الفارس عن صهوة جواده.. وصفوه بفارس السياسة، وبطل الدبلوماسية.. ونعتوه بحكيم السياسة، وفقيه الدبلوماسية.. سموه قيثارة السياسة وأنشودة الدبلوماسية.. ولكني أعلم علم اليقين أن الأمير سعود الفيصل لا يحب مثل هذه التسميات، ولا يرتاح إلى مثل هذه النعوت، وينفر من مثل هذه الصفات، ودليلي على ذلك - إن كانت هناك حاجة لدليل - ما حدث ذات مرة حينما اطلع على مقال كتبه أحد الكتّاب في صحيفة من صحفنا المحلية تضمن الكثير من المديح والإطراء لسموه وللأعمال التي يقوم بها، أحال الأمير المقال لي مع هذه العبارة اللافتة: «لشكره على أي حال، ولو أنه مبالغ، والمبالغ في المديح كالذي يذم»، ولعل هذا ما يدفعني إلى عدم الخوض في قضية الأوصاف والنعوت، وذلك لأن لي مع الأمير سعود قصة طويلة أود أن أحكي بعض فصولها، ورواية شيقة أرغب في أن أسرد مقتطفات منها وأنا في صدد الحديث عن المشاعر التي انتابتني بعد علمي برغبته في إعفائه من منصبه. بدأت فصول هذه القصة وأحداث هذه الرواية في عام 1973م وكنت آنذاك قائما بالأعمال بالنيابة في السفارة السعودية بواشنطن حين وصل إليها وزير البترول والثروة المعدنية الأسبق الشيخ أحمد زكي يماني حاملا رسالة عاجلة للحكومة الأميركية، وكان يرافقه الأمير سعود الفيصل بصفته وكيلا لوزارة البترول والثروة المعدنية، كانت تلك هي المرة الأولى في حياتي التي أقابل فيها الأمير سعود حيث حضرت الاجتماع الذي تم فيه إبلاغ الرسالة لوزير الخارجية آنذاك ويليام روجرز، وأذكر جيدا أنه كان مما استرعى انتباهي أن مشاركة الأمير سعود في ذلك الاجتماع كانت فاعلة بشكل ملحوظ، حيث كانت له مداخلات وتعليقات قوية ومؤثرة، ولكن لم يخطر على بالي ولو لثوان معدودة، أن هذا الأمير الذي أراه لأول مرة سيصبح بعد ذلك بعامين فقط وزيرا للخارجية، وأنه سيقدر لي بعدها بأعوام لا تزيد على أصابع اليد الواحدة أن أعمل معه لمدة سوف تشارف ستة وثلاثين عاما. بعد ذلك أتيحت لي فرصة أخرى للتعرف على الأمير سعود الفيصل عن كثب بعد أن تم تعيينه وزيرا للخارجية في عام 1975م وقدم إلى واشنطن في زيارة رسمية لتسليم رسالة من المغفور له الملك خالد بن عبد العزيز إلى الرئيس الأميركي جيرالد فورد، حيث ساهمت، وبتوجيهات من سفير المملكة في واشنطن آنذاك الشيخ علي عبد الله علي رضا - رحمه الله - في الترتيب والإعداد لزيارة الأمير سعود، وكانت تلك الزيارة هي المدخل الذي قادني، وبعد عودتي إلى المملكة في بداية عام 1979م، إلى العمل في مكتبه بالوزارة بجدة. في اليوم الأول الذي بدأت فيه العمل في المكتب، أُبلغت بأن الوزير يرغب في مقابلتي، شعرت في البداية بشيء من الهيبة والرهبة وأنا أدلف بخطى متثاقلة إلى داخل مكتبه، ولكن حسن الاستقبال والبشاشة والتواضع الجم الذي لمسته من الأمير سعود في بداية المقابلة بدد كثيرا من تلك الرهبة، وأحل مكانهما شعورا خافتا في البداية ومتناميا بعد ذلك بالاطمئنان والارتياح. كان الأمير سعود كعادته التي ميزت شخصيته وتعامله مع الموظفين - وغير الموظفين - والتي ألفتها منذ ذلك الحين.. واضحا في رؤيته، دقيقا في عباراته، موجزا في كلامه، سلسا في عرضه. لم يخطر على بالي على الإطلاق أن تلك المقابلة مع الأمير سعود ستكون بداية علاقة عمل مع هذا الرجل قدر الله لها أن تدوم كل هذه المدة الطويلة، وإن تعجب - أيها القارئ الكريم - فعجب أن أقول لك إنني لم أسمع منه في يوم من الأيام في خلالها أي عبارة تنبئ باللوم، أو توحي بالتقريع، ولم أر منه أي تصرف يعبر عن السخط، أو ينم عن عدم الرضاء، ولم ألحظ منه أي إشارة تدل على التبرم، أو توحي بالضيق، أو تكشف عن التذمر، وأن أقول لك أيضا، إنني من جانبي قد قدمت في سبيل المحافظة على صفاء ونقاء وبهاء تلك العلاقة زهرة شبابي وعصارة فكري، مع كل ما أملك من جهد وعطاء، وكل ما أدخر من إخلاص ووفاء، وكل ما أستطيع من تضحية وإيثار. ومن الجدير بالذكر أن الأمير سعود كان دائما هو القوة المحركة والدافعة وراء كل خطاب يلقيه في المحافل الدولية، وكذلك في المناسبات التي تتخلل الزيارات الرسمية التي يقوم بها للدول، والمناسبات العلمية والأكاديمية التي يدعى إلى المشاركة فيها، وهو - إن صح التعبير - المهندس والمصمم والمشرف على مشروع بناء الخطاب، كان يتابع وبدقة متناهية كل صغيرة وكبيرة منذ مسودة الخطاب الأولى وحتى لحظة إلقائه، وكان يضيف ويحذف ويستبدل في فقرات الخطاب ومواده ما شاء الله له أن يضيف ويحذف ويستبدل. كان في كل مرة يستمع إلى فكرة جذابة أو ملاحظة وجيهة يضيفها أو يشير إليها، بدافع من حرصه الشديد على أن يعكس الخطاب في نهاية المطاف آخر التطورات وأحدث المستجدات وأجدى الأفكار وأنجح الحلول وأفضل التعبيرات والأساليب المتاحة والممكنة. بل إن الأمر يصل به في بعض الأحيان إلى حد إجراء تعديلات حتى في اللحظات الحرجة الأخيرة، وبعد أن تتم طباعة الخطاب في صورته النهائية. ولن أنسى ما حييت الكثير من اللحظات العصيبة والأوقات الحرجة، منها ما حدث في أحد الاجتماعات، وكنت جالسا خلفه في قاعة الاجتماع أتابع الخطابات التي تلقى، إلى أن جاء دور المتحدث الذي كان من المفروض أن يلقي الأمير سعود خطابه بعده مباشرة، حيث فوجئت بالأمير وهو يلتفت نحوي ويهمس في أذني متسائلا عما إذا كنت قد تابعت أو لاحظت ما قاله المتحدث في فقرة معينة من فقرات خطابه، ولحسن حظي أنني كنت متابعا لخطاب المتحدث، ولم أكن مسترخيا شارد الذهن ظانا بأن مهمتي قد انتهت، وأنه لم يعد هناك ما يدعو إلى الانتباه أو التركيز، فلما أجبته بالإيجاب قرر إضافة تعليق مناسب على ما قاله المتحدث. وحين فرغ الأمير من إلقاء خطابه كان لا بد أن يستولي على إعجاب الحضور ويحظى بثنائهم وإطرائهم لأنه جاء مواكبا لأحدث التطورات وآخر المستجدات، بما في ذلك ما تضمنه خطاب المتحدث الذي سبقه، والذي لم تمض على إلقائه سوى دقائق معدودات. لقد أتاحت لي المدة الطويلة من العمل بمعية الأمير سعود، والجلوس إليه، والسفر معه، والقرب منه فرصة ربما لم تتح لغيري للتعرف على جوانب شخصيته، وأسلوبه في العمل، وأفكاره ورؤاه السياسية والاستراتيجية، مما أستطيع معه أن أدعي أنني قد أحطت بما لم يحط به غيري، وجئتك - أيها القارئ الكريم - عنه بنبأ يقين. (وسأكتفي في هذه العجالة بالجوانب المتعلقة بشخصيته، وأرجئ الحديث عن الجوانب الخاصة بأفكاره ورؤاه السياسية إلى فرصة أخرى أرجو أن تسنح في المستقبل القريب إن شاء الله). لا أعرف كيف ومن أين أبدأ محاولتي فتح مغاليق شخصية الأمير سعود الفيصل، ولكن سؤالا وجهه إليّ أحد الزملاء منذ أمد بعيد قد يمثل مدخلا مناسبا للولوج منه إلى رحاب هذه الشخصية الفذة. سألني السائل: «كيف يتسنى لي أن أحظى بثقة الأمير، مع كل ما عرف عنه من دهاء شديد وقوة شخصية؟». جاءت إجابتي سريعة ودون تفكير، قلت له: إن هذا الرجل يتمتع بذكاء حاد متوقد، فهو يكتشف ما تريد أن تقوله قبل أن يفصح عنه لسانك ويفهم ما يدور في خاطرك قبل أن تنبس به شفتاك، لذلك لا تحاول أبدا أن تتحاذق، ولا تجرب مطلقا أن تتذاكى أو أن تلجأ إلى اللف والدوران أو التلاعب، بل كن في تعاملك معه صريحا كل الصراحة، واضحا كل الوضوح، أمينا كل الأمانة، وصادقا كل الصدق، فهو يملك قدرة عجيبة على سبر غور أهدافك حتى قبل أن تفصح عن مرادك، وعلى توقع نياتك من نظرات عينيك وطريقة حديثك وأسلوب كلامك. لم أقل ما قلته للسائل عن إيمان واقتناع كامل بصحته وحقيقته فحسب، بل عن تجربة وممارسة في التعاطي معه ورؤيته وهو يتعامل مع أصناف متعددة من البشر بأسلوب يتفق مع شخصية كل صنف، ويتوافق مع أهدافه وأغراضه ومراميه. ما قلته للسائل عن شخصية الأمير سعود، لم يكن يمثل في الواقع سوى جزئية بسيطة من منظومة متكاملة تجلت فيها السمات والصفات والخصال التي حباه الله بها، والتي تمكنت من سبر أغوارها خلال سنين طويلة من القرب منه والعمل معه، منها ما لمسته فيه منذ البداية من قدرة فائقة على ضبط النفس والتحكم في المشاعر.. كنت ألاحظ دائما قدرته العجيبة على السيطرة على أعصابه حتى في أحلك الظروف وأصعب المواقف، فسواء أكان في قمة الغضب أم في منتهى الرضا، وسواء أكان في أقصى حالات التعب والإنهاك، أم في منتهى الراحة والسكينة، فإنك لا تجد أن طبقته الصوتية قد تغيرت، أو أن ملامح وقسمات وجهه قد تبدلت، أو أن تحكمه في ألفاظه وعباراته قد تأثر. يرتبط بهذه الخصلة جانب آخر يتمثل في قدرته اللافتة للانتباه على امتصاص مشاعر الموظف الذي يأتي لمقابلته وهو في أعلى حالات التوتر أو الإحباط أو القلق. أقول هذا من واقع تجارب شخصية مرت بي خلال المدة الطويلة التي عملت فيها معه. فكم من مرة دخلت مكتبه وأنا مثقل بالضغوط التي يتعرض لها الموظف عادة، أو المشكلات والعقبات التي تعترض طريقه، أو واقع تحت تأثير بعض الحالات النفسية التي تمر على الإنسان فتجعله يشعر بالإحباط، أو التوتر، أو حتى الغضب، ولكن ما إن يبدأ الحديث معه إلا وأشعر بأن كل تلك الأحاسيس قد تبددت وحل محلها نقيضها. والأهم من ذلك كله، هو أن الصورة التي أحاول في هذه السطور القليلة أن أرسمها لشخصية الأمير سعود لا تقتصر على هذه الجوانب، بل تتعداها إلى خصلتين أو سمتين أخريين تفسران - إذا أضفناهما إلى ما سبقت الإشارة إليه من سجايا وصفات - النجاح الكبير الذي استطاع أن يحققه في مجال عمله وفي حياته بصفة عامة. تتجلى السمة الأولى في العقلية الاستراتيجية والفكر التكتيكي الذي يتمتع به، مع ما يترتب على ذلك ويؤدي إليه من وضوح تام في الرؤية، وقدرة كبيرة على تنفيذ ما يقتنع ويؤمن به، أو ما يسعى إلى تحقيقه من أهداف وغايات مهما كانت درجة المصاعب التي تعترضه أو العقبات التي تحول دون تمكنه من تحقيقها. كثيرة كانت هي المناسبات التي شهدت فيها بنفسي تجليات تلك العقلية وذلك الفكر، شاهدت تلك التجليات وتابعتها في المحادثات والمفاوضات التي كان يجريها مع قادة الدول ورؤساء الوزارات ونظرائه من وزراء الخارجية. كنت أرى بأم عيني دهاقنة وأساطين السياسة في العالم وهم ينصتون إلى وجهة نظره للقضايا، وتحليلاته للأوضاع، وشروحاته لمواقف بلاده وقضايا أمته العربية والإسلامية، وينهلون من حكمته، ويتأثرون بأطروحاته، ويحترمون آراءه وأفكاره. يتجلى ذلك أيضا في إدارته للمؤتمرات الدولية التي كان يقودها بكل جدارة وكفاءة واقتدار، وفي قدرته المذهلة على تحقيق النتائج التي يرغب في التوصل إليها مهما كانت تعقيدات الموقف وصعوبة الظروف وجسامة التحديات، شأنه في ذلك شأن الربان الذي يقود السفينة في خضم الأعاصير والأمواج العاتية حتى يتمكن من الوصول إلى بر الأمان وشاطئ الخلاص. أما السمة الثانية فهي تبدو فيما يملكه من ثقافة «موسوعية» راقية، وإن كنت أعجب من شيء فعجبي من إلمامه بشكل لافت للنظر بمعلومات وافية وفهم عميق لجل مناحي الحياة، يتجلى ذلك في قدرته على الحديث عن أي أمر من الأمور أو موضوع من الموضوعات أو قضية من القضايا بصورة توحي إليك أنه قد أوسعها اطلاعا وبحثا وتأملا، ولا يقتصر هذا على حقل معين من حقول المعرفة، أو على مجال من مجالات الفكر، فمعلوماته وثقافته هي - كما أسلفت - «موسوعية» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. بقى شيء أخير قد لا يعرفه عن الأمير سعود إلا من قدر له التعامل معه عن كثب، وهو ما يتمتع به من روح الدعابة Sense of Humor وسرعة البديهة والتعليقات اللاذعة التي لا يملك المتلقي أمامها سوى الإعجاب والاستئناس بها. فإذا أضفت إلى كل هذه الصفات والخصال والسمات ما يتميز به الأمير من أخلاق عالية، وتواضع، وأدب جم، وتهذيب كبير، وأسلوب راق في التعامل مع موظفيه وزملائه ومعارفه والناس كافة، لوجدت أن محصلة ذلك كله يمكن اختصارها في كلمتين: سعود الفيصل.