×
محافظة المنطقة الشرقية

عقاريون: تريليون ريال قيمة الاستثمارات العقارية السكنية خلال 10 أعوام

صورة الخبر

لم يجر اعتبار العمى وباء معديا يلحق بمجتمع كامل، فيلزم الوقاية منه، إنما هو عرض فردي يطرأ لعلّة ما؛ ولكن "ساراماغو" أغفل أسباب العمى الشائعة بين الأفراد، واقترح سببا يناسب مقتضيات السرد الرمزي في روايته "العمى"، فإذ به جائحة عامة تنتشر بالمجاورة والمشاركة، يصاب به المبصر حينما يكون بصحبة أعمى أو بقربه؛ وبذلك نقلت فكرة العمى الجماعي الرواية من مستوى المشكلة الفردية إلى مستوى القضية الجماعية، فالعمى داء مبهم لا يعالج إلا بالبصيرة. كانت البداية حينما تفاجأ بالعمى رجل في الثلاثينيات من عمره، وهو يقف بسيارته أمام إشارة المرور، فتحوّل العالم في عينيه إلى ضباب أبيض. تلك حال طارئة، لا هي بعاهة، وليست عطبا جسديا، ولم تكن نتاج خلل أصاب العين فجأة، إنما عمى غشي الرجل بلا سابق إنذار. حينما نُقل المصاب إلى عيادة لعلاج العيون، أخبره الطبيب أن عماه ليس نتاج تشوّه، أو مرض، وبذلك فهو لا يعرف "حالة كهذه في تاريخ طبّ العيون". انبثقت عن هذه البداية الأحداث اللاحقة للرواية. في البدء ارتسم عجب تجاه العدوى الغامضة، ولكن ما لبث أن تحوّل الاهتمام إلى كيفية الوقاية من العمى، وانتهى بالنزاع بين العميان، فما أن تتخطّى الحالة المرضية صاحبها إلا وتصبح عدوى ينبغي الحذر منها، وكان من الضروري اقتراح سبب لذلك، فقد خطر للشخص الذي تطوّع لإعادة الأعمى إلى بيته أن يسرق سيارته، فاللص في منأى أن يضبطه ضرير، وما أن قام بفعلته حتى أصيب بالعمى، وبعمى بريء ولصّ شاع الأمر في المدينة، أصبح العمى وباء يتحسّب أهلها من أن يكونوا ضحايا له. أما أعراضه فغريبة؛ فالمصاب به يشعر "كأنه غطس بعينين مفتوحتين في بحر حليبي". أصيب الطبيب المعالج بالعمى، ثم أصيبت به مومس كانت على موعد مع عشيق، فغشاها العمى وهي في أحضانه، واكتملت الجماعة الأولى من المصابين، بطفل، ولم ينقض اليوم إلا وأصبح العمى شاغل المدينة. أطلق الوباء جرس إنذار في مجتمع متزاحم، فظهرت السلطة ممثلة بوزارة الصحة، فأمرت بحجز المصابين في مشفى مهجور للأمراض العقلية بقاعتين منفصلتين. حلّ العميان محلّ المجانين. جعلت القاعة الأولى للعميان، والثانية للمشتبه بحملهم العدوى. وبينهما ردهة فاصلة اعتُبرت "منطقة محايدة يعبرها أولئك الذي يكتمل عماهم فينضمّون إلى العميان". أطلقت وزارة الصحة على الوباء اسم "الشرّ الأبيض". أن تكون أعمى يعني أن تغوص في سراب أبيض شرير. لم تقتصر المشكلة على الخوف من الوباء إنما طرأت فكرة حماية الحدود. لم يعد من المتاح الانتقال بين القاعتين، فلكل جماعة مكانها: جماعة العميان، وجماعة أشباه العميان، وبظهور الحدود انتقلت المشكلة من عدم الإبصار إلى حرية الانتقال، فلا يسمح بالمخالطة والمحادثة إلا في منطقة كل جماعة، وبذلك حل الارتياب بين الجماعتين محل الخوف من كارثة حلّت بهما. وبقدوم الظلام جرى التعارف بين المقيمين في الردهة الأولى، وهم: الأعمى الأول الذي أصيب عند تقاطع الطرق، واللص الذي سرق سيارته، والطبيب الذي عالجه، وزوجة الطبيب، والطفل، والعاهرة صاحبة النظارة السوداء، والتحق بالجماعة ثلاثة رجال وامرأتان، لكن دفعات العميان توالت على المكان، ثم تبيّن أن زوجة الطبيب مبصرة، ولم تنتقل إليها عدوى المرض، فهي العين المبصرة في مدينة عمياء. تشكلت نواة مجتمع أعمى حمل معه خصومات مرحلة ما قبل الإصابة بالعمى، وفيه من الصراع بين أفراده بمقدار ما فيه من حاجة إلى الانتظام في نسق ضابط للعلاقات فيما بينهم. ولكن مجتمع العميان لا حاجة له بالأسماء، فمادام التعرّف متعذرا فلا حاجة للتسمية، إذ يُعرّف الأشخاص بأصواتهم كالكلاب "سلالة أخرى من الكلاب، يعرف أحدنا الآخر من نباحه، أو كلامه". أعلنت السلطة أنها سوف تطلق النار في حال تجاوز الحدود، وبما أنه لا يعرف أحد الحدود الفاصلة بين الجماعتين، فقد كثرت التجاوزات، وكثر القتل. تزايدت إصابات الناس بالعمى، ما دفع الحكومة إلى الاستيلاء على المصانع المهجورة، والكنائس المهملة، والقاعات الرياضية، والمخازن الفارغة، كما أنها نصبت معسكرات لاحتواء المصابين، وقد شمل العمى سوّاق الحافلات، والشاحنات، والطائرات، فتوقفت حركة النقل، وسار الناس مشاة في شوارع المدينة، ولم يقتصر انتقال العدوى على القرب والمجاورة، إنما شاع العمى، فضلا عن ذلك، بسبب الخوف منه. افترس الخوف أهل المدينة، فتعذّر عليهم حماية أنفسهم. فرضت الإقامة الإجبارية إحساسا بامتلاك المكان، فالاستيطان نتاج استحواذ المرء على مكان ما، وتورث ملكية المكان نزاعا بين المقيمين فيه بدعاوى كثيرة. نجحت جماعة مسلحة بالعصي من العميان في الاستئثار بالطعام، وحرمان جماعة أخرى منه، وصرف جنود الحراسة النظر عن ذلك تاركين العميان يقتلون بعضهم بعضا بهدف التخلّص منهم. سنّت الجماعة المسلحة، باستيلائها على الطعام، قانونا فرضته على الجميع "من يريد أن يأكل يجب أن يدفع" وبما أنه لا أموال لدى المحتجزين، فينبغي التخلّي عن مقتنياتهم الشخصية للحصول على الطعام، وعلى هذا ظهرت فكرة المقايضة، وهي نظام انتفاع بدائي يقوم على استبدال سلعة بأخرى، أو مقايضة سلعة بخدمة. انقسم مجتمع العميان إلى أقلية احتكرت الطعام بالقوة عُرفت ب"السفّاحين" وأكثرية جائعة تبحث عنه لكنها لا تملك شيئا به تقايض الطعام، فحلّت مشكلة الجوع محلّ مشكلة العمى، وتوارى أمر الخوف من الشرّ الأبيض، فكلما استُحدث أمر دفع بما سبقه إلى الوراء، وكما هو متوقّع أخذ السفاحون بتفريق الأغلبية للسيطرة عليها بدعوى أن فيها مَنْ يأكل بلا مقابل، وفيها مَنْ يأكل طعام غيره. وما أن نفدت الممتلكات الشخصية حتى طلب السفاحون إرسال النساء إلى جناحهم، وبذلك أصبح الجنس خدمة تقدمها النساء ثمنا للحصول على الطعام. رُفضت فكرة مقايضة الطعام بالمتعة. عُورضت من طرف النساء أولا، فليس ينبغي هدر كرامة أجسادهن، لكن الجوع، والخوف، والتهاون، فكك المقاومة، فرضخت النساء، وأجبرن على الذهاب إلى جناح السفاحين، وفي كل حال استغلال لابد من مستأثر يفرض على الآخرين ما يريد؛ فظهر زعيم للسفاحين شاهرا سلاحه ليحظى بأجمل امرأتين من خلال اللمس: زوجة الطبيب، والفتاة ذات النظارة السوداء. مارس الجنس مع الثانية، فيما مارس الجنس الفموي مع الأولى تحت التهديد، ووزعت الأخريات على عصبة السفاحين. وقع ضرر بالغ على النساء، ففضلا عن الجوع، فقد تعرضن لاغتصاب مريع جري ببهيمية عميان يتطلعون لإطفاء شهواتهم بالاستيلاء على نساء دفعهن العوز، والجوع، والعمى، لقبول مهانة لم تخطر بالبال. وبذلك ارتسمت علامة الانتقام. بعد مرور أيام على حملة الاغتصاب الأولى، طلب السفاحون، مرة أخرى، النساء للاستمتاع بهن، وكان عددهن خمس عشرة، فاندسّت زوجة الطبيب وسطهن، تحمل مقصا أخفته معها، وفيما كان الزعيم يستمتع بإحداهن بطريقته الشاذة غرزت شفرتي المقص في حنجرته حتى فقرات الرقبة، ونجحت في إخراج النساء من المكان، ولكن رجلا آخر، وهو المحاسب، استولى على مسدس القتيل، وأطلق رصاصة إشارة إلى أنه القائد الجديد. قادت زوجة الطبيب مقاومة عنيفة ضد الاستغلال الجنسي الذي تعرضت له بنات جنسها، لكن أحد الرجال من مقيمي الجناح خار ضعفا حينما انقطع الطعام، وتساءل بذل "ماذا يهم لو أن النساء اضطررن إلى الذهاب إلى هنالك مرتين في الشهر كي يمنحن هؤلاء الرجال ما وهبتهن الطبيعة إياه كي يمنحنه؟"، لكن النساء حسمن حال التردّد بالهجوم على السفاحين. قادت الهجوم زوجة الطبيب، ومع أن المحاولة فشلت، لكنّها أدّت إلى تغيير جذري في أحوال العميان، فقد أمسى السفاحون في حال دفاعية بعد أن كانوا المهاجمين. فيما أحجم السفاحون عن تماديهم، وكفّوا عما كانوا عليه، قررت زوجة الطبيب الإعلان عن إبصارها، فلا معنى لادّعاء العمى مادام الموت خيّم على المكان، فالعمى هو "أن تعيش في عالم انعدم فيه كلّ أمل"، ولهذا صرّحت بأنها ترى، وبأنها ستقتص من السفاحين، فقادت هجوما انتهى بحرق الجناح الذي يتكدّسون فيه، ثم قادت جماعتها إلى مغادرة المعزل، فإذا بجنود الحراسة قد اختفوا، لأنهم أصيبوا بالعمى، وبذلك أصبح العميان أحرارا. إلى أين يذهب الأعمى حينما ينتزع حريته؟ سيبقى في مكانه حيث هو، إذ يتعذّر عليه إدراك معنى الحرية "قُل لأعمى أنت حرّ. افتح له الباب الذي كان يفصله عن العالم، وقل له ثانية، اذهب فأنت حرّ. لن يذهب، سيبقى في مكانه وسط الطريق، هو والآخرون مرعوبين لا يعرفون أين يذهبون". حينما غادر العميان سجنهم لم يتحرّروا لأنهم وجدوا أنفسهم عاجزين في مدينة يعرفونها، لكنهم يجهلون طرقاتها. ظهرت المرأة لتقود القطيع الأعمى في شوارع مقفرة امتلأت بالقمامة، والحوانيت المهجورة، فعرفت أن العمى شمل "المدينة كلها، البلد كله". عاشت الجماعة سوية في المعتزل، ولكن وجدت نفسها، بعد أن غادرته، في مدينة تغصّ بالمكفوفين الذين احتلوا كل مكان، والتهموا كل شيء، وفقدت الأشياء قيمتها إذ لا عيون تبصرها، فلا تطلب، إنما تبقى حيث هي إن لم يتعثّر بها ضرير. وبعينيها المبصرتين استطاعت زوجة الطبيب قيادة العميان إلى بيوتهم. أصبحت المدينة معتقلا كبيرا لشعب أعمى، بلا طعام ولا ماء "هذا هو المعنى الحقيقي لكلمة أعمى". وعلى هذا ارتد أهل المدينة إلى "جماعات بدائية"، لكن المرأة لم تصب باليأس، فتمكنت من تأمين السكن لجماعتها في مدينة خيم عليها الخراب، فواصلت الجماعة حياة صعبة قبل أن يعود البصر إلى أفرادها بالتدريج، فيما راحت هي تتخيّل بأنها سوف تفقد بصرها بعد تلك التجربة المريرة. لا معنى للإبصار إلا بعد تجربة العمى، فالعمى ليس انطفاء البصر، فحسب، إنما انعدام البصيرة، فقد نقل العميان معهم كل ضروب الطمع والاستغلال التي أفرزها المبصرون عبر التاريخ، فاختصموا عليها دون أن يرى أحدهم الآخر، لكن الألفة التي شاعت فيما بينهم بعد ذلك أعادت إليهم أبصارهم.. البصيرة ثمرة العمى.