تساؤل ملح يتبادر إلى ذهني دائما قبل أذهان أمثالي من بقية البشر. لما هذه النار المندلعة التي ما تكاد تنطفئ في بلد حتى تشتعل في بلد آخر بالتوازي؟ تساؤل أطرحه عليكم قبل أن أشرع في الكتابة لما أراه بدوري؛ مع الأمل الكبير أن يغمض الواحد منكم عينيه قليلا ويجيب هو من تلقاء نفسه قبل قراءة المقال، ولكن بشرط أن تكون الإجابة بذهنية نقدية فاحصة، وبدون الانسياق لأي آراء رُوجت أو طُرحت. فالذهنية الناقدة هي ما تستوعب جميع الآراء ثم تخرج برأي خاص لها وبدون تأثير أو تأثر، فالرأي الأخير لكم وبدون وصاية. سأفسح المجال للتأمل لحظة فيما يحدث كي يتسنى لنا في لحظة خاطفة ربما اتخاد القرار! لا شك أن الأرض تحت أرجلنا تموج بالدماء في جميع أصقاع الأرض وخاصة في وطننا العربي، بل والإسلامي، ولا شك أن الأرض على مدار التاريخ كله قد سالت بدماء رقراقة دافقة بدافع العرقية والتطرف إذا ما تتبعنا التاريخ، فشكلت فينا جرحا إنسانيا عميقا لا ولن يندمل. إن الدماء اليوم تسيل بدافع آخر وهو دافع التملك والسيطرة واعتلاء المنابر عبر مجرى السياسة التي وصفها مصطلحها بأنها (فن الكذب)، ومن هنا اتخذ الصراع العالمي أو قل العربي فن الكذب للوصول إلى مبتغاه عبر مبررات كاذبة وخادعة، فمرة باسم الدين ومرة باسم العرقية، ومرة باسم الحرية، ومرة أخرى باسم الوطن أو المواطنة، ولكن آن الأوان لإزاحة الستار عما يسمى بـ(فن الكذب) كي نزيح الغشاوة عن أبصارنا وعن أعين الآخرين ونجلو أبصارنا بشيء من التأمل فيما يدعيه هؤلاء المدعون. ولكي نستوحي الإنسان بدواخلنا، فلا يبقى إلا الذات المتأملة فيما تسيل به الأرض من دمائنا نحن أبناء وإخوة وأعراق متصلة بنسب ودم تصب في دورق المستفيد الأول من صناعة فن الكذب، فنفيق على اللاشيء سوى قيد لا ولن ينكسر، مفتاحه في يد المتطرف صاحب الفكر والفكرة الأولى لهذه الصناعة التي أصبحت رائجة كريهة الرائحة! يقول هارون الرشيد: "أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك"، وكأنه يستشرف ما ستمطر به الأرض دون السماء من دماء، ولكن خراجها في هذه الأيام سيذهب إلى هارون آخر، سيذهب إلى صناع (فن الكذب) وعمالقة الساسة والدافعين بأبنائنا السذج البلهاء وقودا لأتون الجحيم المندلع ليجنون خراجهم في آخر المطاف. يقول شاعر العصر: يا أخت هارون ميثاقي نهبا لأعراقي/ سعى ابن أمي في ظلمي وإزهاقي/ إن تمطري لغيري دفاقة. هكذا تمطر الدماء فيجني الخراج من هم وراء هذا الفكر المدمر والساحق، دون وعي ممن ينجرون وراءهم وهم في نشوة الأمل الكاذب بالسيطرة والحكم. فيقول شاعر آخر في هذا المنوال: يا أُخت هارون هذا الصمتُ أقلقني/ والشوقُ أرهقني والبينُ أرقني.. يا أُخت هارون قد سار الوشاة وفي/ ركابهم كل باغ مرجف لسن.. أين العصافير ما بال البلابل قد/ غصت بعيٍّ ولم ترقص على الفنن.. أرى ذئابا وأنيابا تسيل دما/ أرى مخالب تفري أفرخ الصفن.. مسعورة وإلى الأطماع تركض في/ لُؤم وتأخذ ُ آمالا بلا ثمن إن تراثنا في القتل والسلب والنهب بل هو تراث الإنسانية على الأرض، يكمن في شرانقه ثم تتفتق فينا وكأنها دائرة تبدأ من حيث تنتهي! يقول في هذا الدكتور أحمد المغازي في روايته أولاد الفرن: "إن ما نتصوره جمودا في أحداث الحياة ما هو إلا حركة معكوسة في الاتجاه المضاد. وهنا تكمن المأساة، عندما يلتقي الجامد بالجامد والسافل بالأسفل منه.. وعندما ينتقل الجمود من حولك إلى الجمود داخلك.. أو ينتقل الجمود من داخلك إلى خارجك.. وهنا فقط يمكن أن تصل الأحداث إلى قمة تصاعدها المعكوس عندما تتوالد حالات الجمود وتنمو وتزدهر بأسرع ما تكون.. وعندها سنرى، كم من بدايات تتحول إلى نهايات، وهنا يصبح المعقول لا معقولا واللا معقول معقولا"! إنها مأساة تراجيدية وحيوية تتنامى فينا دون أن نعي كنهها دون وعي ودون تأمل! إنها لحظة تأمل، لندع كل ما يمكن أن يسيطر على وعينا من أفكار نبتت فينا وتوارثتها جيناتنا من خصال رديئة وكريهة الرائحة، نبتها العرقية والشوفينية والطائفية وإنكار الآخر، والتهافت على أخبار الدم والدمار، فمثل ما هناك دماء واستعداء، هنالك أيضا زهور تتفتق بعبير يلفنا ويحوينا دون أن نراه في ظلمة العقول المظلمة ودهاليز الفكر الأسود المتلوث بسواد وأوشحة الحزن. هناك أيضا حب وسلام وود يحتوينا دون أن نلقي له بالاً. هناك نجاحات وأمل وآمال تنتظرنا فقط إذا ما توقفنا قليلا للحظة تأمل. وها أنا لا أزال أنتظر الإجابة.