في القرن السابع عشر الميلادي، كان وجود بحيرة في مقدمة قصور النبلاء والسلالات الملكية، تصطف فيها البجعات البيضاء بنظام لا يكسر، يشابه صفوف فرق العسكر الخاصة، وتطلق تغريداتها العذبة، نوعا من الرفاهية والترف، ومشهدا يتسابق سيدات وسادة القصور على التباهي به. وإذا ما أراد سليل هذه العائلات العريقة وصف المستحيل، قال: "كالبجعة السوداء"، التي لم تكن موجودة في ظن الأوروبيين آنذاك، على أي مكان من هذا الكوكب. .. لاحقا، وفي القرن الثامن عشر، عندما عرف الأوروبيون الأرض الجديدة، أستراليا، وجدوا أن البجعة السوداء حقيقية موجودة بلحمها وشحمها وريشها، تعيش على الجزء المكتشف حديثا من هذا العالم، فأعجبهم لونها وريشها ومنقارها المختلف، وصوتها المميز في التغريد عندما تقترب الشمس من الغياب، ناهيك عن الميزات الأخرى غير المتوافرة في ربيبات القصور السابقات، البجعات البيض، ما أغرى أفراد هذه السلالات النبيلة بالتسابق في تطعيم صفوفهم البيضاء باللون الأسود الجذاب. .. حينما، حلت البجعة السوداء في بحيرات قصور النبلاء والملوك وأبنائهم، تعرفوا على صفات جديدة لم تكن متوافرة فيما تعودوه من البجعات ذات اللون الأبيض، وجدوا أن القادمة الجديدة شريرة متمردة على النظام، تفسد اصطفاف نظيراتها البيض على سطح البحيرات، وتطلق تغريداتها منفردة، كاسرة النوتة الموسيقية لمجموعة البيض، ولا تبالي بـ "السيستم"، ولا تستجيب لنداء الطعام في وقته، تترك حصتها من الحبوب وتذهب لطرد بجعة بيضاء عن إنائها وتستولي على ما فيه، تتأخر في مغادرة الحظيرة صباحا والعودة إليها مساءً، وتفتعل المشاكل مع الأخريات، وباتت رؤيتها، تخترق صفوف البجع الأبيض المتراصفة روحة وجيئة وبعبثية ولا مبالاة، مشهدا متكررا عند الشروق والمغيب. .. ولأن هذه القصور، تسير فيها الحياة كعقارب الساعة، أو على الأقل كما يحاول أهلها إظهار ذلك، ويعنيهم كثيرا النظام والتقاليد والأعراف والمظهر العام أمام الآخرين، ضاقوا ذرعا بتصرفات البجعة السوداء، ورأوا فيه خدشا لتقاليدهم الراسخة، وقرر كثير منهم طردها خارج أسوار قصورهم ومياه بحيراتهم، وفعلوا، إلا قلة رأت أن التمرد الذي يمارسه الطائر الأسود القادم من الأرض البكر، يمكن استيعابه وتحمله، لأن لديها من الميزات ما يبز قريناتها البيض ويختلف عنهن، ويشفع لها في حجز حيز على سطح البحيرات الملكية، ويخلق جوا جديدا يحطم الكلاسيكية المملة أحيانا. تاليا، أصبحت البجعة السوداء، رمزا للتمرد والإبداع المنفرد في الثقافات الأوروبية، ونتج عن ذلك النظرية الاقتصادية المعروفة بالاسم ذاته، وأنتجت هوليوود واحدا من أجمل أفلامها التاريخية يحمل الاسم ذاته، "بلاك سوان"، الذي رشح لأربع جوائز أوسكار، وفازت بطلته اليهودية ناتالي بروتمان بأوسكار أفضل ممثلة عنه في عام 2010. في كرة القدم، يوجد كثير من النجوم المبدعين الخلاقين المتمردين على النظام الذين يمثلون دور البجعة السوداء باقتدار، أشهرهم الأسطورة مارادونا، والإيطالي المعاصر المثير بالوتيللي، ومحليا يوسف الثنيان، الهريفي، محمد نور، حسين عبد الغني، وحاليا أرى أن أوضح من يمثل ذلك هو عبد الله العنزي حارس النصر المبدع المتمرد، الذي سقى الثمرة في داخله المتمرد العالمي الأكبر هيجيتا مدربه الحالي، والهلالي المتفرد نواف العابد. في فريق كرة القدم، تحتاج إلى البجعة السوداء، وتحتاج إلى جنونها الإبداعي، وتحتاج أكثر إلى التعامل معها بمعزل عن النظام، وبانفراد، حتى تفجر طاقاتها الإبداعية أكثر.