لا يذكر زمن هذه الحادثة تحديداً.. ولكنه يذكر تفاصيلها كما لو كانت منقوشة في ذهنه، ومرسومة على جدار قلبه..!! كان الوقت عصراً عندما كان يطارد الفراشات ذات الأجنحة الصفراء الكبيرة.. لكنها كانت تفلت من بين يديه في نعومة ومراوغة ولين، وكان طيرانها الخفيف، الهفاف، القريب من رأسه يغريه بالركض وراءها، وقد أخفق حتى في إمساك واحدة منها، وبينما كان في غاية جهده، ومحاولته وانفعاله لاحت له من منعطف الوادي سيارة صاعدة نحو المزرعة، كانت خضراء طويلة براقة، وقد أخذت تنساب في الطريق الترابي بين حقول البرسيم والخضروات، كانت أشعة الشمس تنعكس على زجاجها ثم تختفي وفق حركتها.. كانت تسير سيراً ليناً مرناً خفيفاً وكأنها تزحف على فراش، لم يكن لها صوت، ولا جلبة، وإنما كانت تنساب بطمأنينة، وكانت أسراب العصافير الراتعة في الحقل تفر منها فتطير كلما اقتربت مشكلة مظلة من الأجنحة ترفرف فوقها فإذا ابتعدت السيارة قليلاً استدارت كاسرة أجنحها لتهبط مرة أخرى إلى مراتعها.. ظلت السيارة في طريقها متجهة إلى البئر حيث هناك يتدفق ماء المكنة في البركة وحيث يقوم بيت صغير على ضفتها الشرقية وقد فرشت دكته بالبسط الحمراء وصفت المساند المزركشة على جداره في مواجهة البركة... وقفت السيارة وهبط منها رجل وثلاث نساء وأربعة أطفال.. نظر إليهم متأملاً في قلق ثم أقبل نحوهم بحذر، وتردد، وهو يكاد يبكي، وحين أصبح قريباً توقف، كان خائفاً وخجلاً.. ووقفت امرأة، ونادته. وهي تؤشر له بيدها حيث التمعت خواتم ذهبية من أصابعها المترفة.. وقبل أن يسير نظر إلى ثوبه، وقدميه الحافيتين المغبرتين، سار على مهل واستحياء، وحين اقترب منها أقبلت إليه وحملته بين ذراعيها، وقبلته، واحتضنته، وهي تقول: يا زين عيونه يا ناس.. ثم أخذت تشد أزرار ياقة جيبه المفككة.. شم منها رائحة عطر أنثوي أسطوري مبهم لا يعرف كيف يصف نشوة عبقه في قلبه ووجدانه.. أجلسته إلى جانبها وأخرجت كيساً من الحلوى ووضعته بين يديه... أخذ الكيس وهو يشم رائحة الحلوى الفواحة العذبة، كان الكيس مربوطاً وكان لعابه يسيل وهو يكابد لذة الرائحة.. نظر إلى المرأة نظرة استنجاد، ولكنها لم تتنبه إليه كانت مشغولة مع صاحباتها.. نظر إلى الأولاد ولكنهم أكبر منه فهابهم، أعاد محاولة فك الكيس، ولكنه كان مربوطاً بإحكام، غير أن رائحة الحلوى الشهية اليانعة، بعثت في داخله نشوة، وشهوة عارمة ورغبة ملحة في فتحه، تلفت متلهفاً متطلعاً.. ولكن ليس حوله هنا أحد من عمال المزرعة.. ولم يكن بالبيت أحد أيضاً.. وكانت النساء قد أخذن يدرن حول المكان في شغف وكأنهن يبحثن عن حاجة مفقودة.! ثم جلسن يتضاحكن على حافة البركة، وقد أغطسن أرجلهن البيضاء وهن يخضخضن الماء... أجال النظر فيما حوله مرة أخرى في يأس ولكن لا أحد ينظر إليه، ولا إلى كيسه، هبت نفحة من نسمة ضائعة، تحمل رائحة الحصائد وأزهار البقول، وقد صار الحقل بلون الذهب فالشمس قد دلكت نحو المغيب، خاف الطفل من مباغتة الظلام.. وانبعثت من الكيس رائحة مبهجة كضوء شفاف، أخذ يجد مشقة وهو يطبق أسنانه الطرية في محاولة لفتحه.. انسل وهو يسحب كيسه، ويتلفت كعصفور مذعور حتى توارى خلف البيت.. هناك بحث عن حجر.. أخذ يدق خيط الكيس بالحجر كي يفتحه لكن الخيط استعصى عليه، فاندفع يدقه وهو يصرُّ عينيه ويصك على أسنانه في غضب وغيض، وفي حماسة.. انزلق الحجر من يده فدق أصبعه بعنف، فتدفق الدم على الكيس، وقفز وهو يصرخ من الألم ومن منظر الدم وركض ساعياً مذهولاً، وقد ترك الكيس والحجر وراءه..!! أقبلت المرأة إليه وهي تولول.. رفعته ضمته إلى صدرها وقد أخذت تنظر إلى أصبعه الدامي، وتردد في إشفاق ورثاء يصل حد البكاء: ما الذي حدث لك يا عيني..؟ ما الذي حدث لك يا صغيري المسكين..؟ وكان يبكي ويلتفت خلف كتفها.. كان يبكي ويلتفت.. كان يبكي وهو ينظر بحسرة من خلال دموعه إلى "الكيس".