في الوقت الذي عرف فيه العالم (المطبعة) ذلك الاختراع الذي حرّر المعرفة، امتنع دخول هذا الاختراع المهمّ إلى أراضي الدولة العثمانية، بسبب ارتياب الفقهاء آنذاك وجمود موقفهم من هذه البدعة الحادثة، دون أن تتصدى السلطات السياسية في ذلك الزمن لهذا الموقف بضغط معاكس، إذ جنحت إلى الخيار الأسهل، وهو خيار لسان حاله "الباب اللي يجيك منه الريح سده واستريح"، فكان نتيجة سدّ ذلك الباب، انفصال الأمّة عن واقعها المعرفيّ حقبة امتدّت حوالى ثلاثة قرون، ممّا أحدث فجوة حضارية هائلة بينها وبين من سبقها من الأمم إلى تناول الطباعة وتداول العلوم. ما حدث هو مثال لخسارة فادحة على مستوى الأمّة، أدّت إليها ثقافة الجمود المعزّزة بانعدام الجرأة الحكيمة، أو ما يمكن تسميته عقلية "سدّه واستريح". هذه العقليّة التي لا تزال أمتنا تتشرّب أدبياتها وتتعاطاها بشكل يوميّ، فخير وسيلة يراها الأب الذي يريد صلاح أبنائه هي منعهم من الخروج إلى الشارع وحجبهم عن الاختلاط بالأصدقاء! وأفضل طريقة يدير بها المدير عمله هي الحفاظ على النماذج المألوفة وقمع المبادرات الفرديّة تحت شعار (لا تفتح علينا باب). وأحسن الحلول لفض اختناق مروري في تقاطع ما هو إغلاق ذلك التقاطع تماما! وأقوم الآراء الفقهية التي تتصدّى للمستجدّات هي تلك التي تبادر إلى المنع والتحريم. يجسّد رواج أدبيات هذه العقليّة حالة الكسل الفكري الذي تعيشه المجتمعات الراكدة، وهي حالة تعتمد في بنيتها على مخاتلة نفسية تستحضر أكثر السيناريوهات المحتملة سوءاً، وتعيشه بشكل استباقي كهاجس لا يفارق مخيلتها المرتابة. فتصنع بذلك القفص الذي تقبع في أسره طواعية، وهو وإن كان قفصا وهميا في الحقيقة إلا أن له أثره الفعلي في الواقع فيحد من حركة تلك المجتمعات ويعيقها عن الانطلاق. تنعكس هذه المخاتلة النفسية على اللغة المستعملة في عقلية "سده واستريح"، فتفشو في خطابها ما يسميه أهل المنطق (مغالطة أنف الجمل)، أي تلك المغالطة المنطقية التي يزعم صاحبها أن السماح بدخول أنف الجمل إلى الخيمة، سيؤدي بشكل حتميّ إلى دخول رأس الجمل ثم بقية جسمه إليها، وسيؤدي ذلك بالضرورة إلى مهاجمة الجمل لصاحب الخيمة وإخراجه منها. في تجاهل كامل لسلسلة الاحتمالات الأخرى المتوقّعة التي قد يكون بعضها في صالح صاحب الخيمة بطبيعة الحال. تعمل هذه البنية في مجتمعات الكسل الفكري بشكل فاعل، فإذا استجد أمر أو عمد ذو ذهن نشط إلى مبادرة ما، رفعت في وجهه مغالطة (أنف الجمل) ولاحقته مطالبات عقلية "سده واستريح"، وكأن الاحتمال الوحيد الذي ينتظره حقل القمح دائما هو تعرضه لأسراب الجراد. إن قانون (حفظ الطاقة) الفيزيائي مبرر جداً في عالم المادة، ومن الممكن الاستفادة من مراعاته، ولكن استعارته للتعاطي مع حركة المجتمعات البشرية الحيّة، فيه امتهان للإنسان المكلف بالأمانة الحضارية، تلك الأمانة التي تقتضي منه الحركة الدائبة في آفاق الكون. ولكنّنا عند إمعان النظر في عقلية "سده واستريح" لا نرى ما تستمد منه بقاءها سوى هذا القانون الفيزيائي! ربما تعود بعض مكونات عقلية "سده واستريح" إلى سوء التغذية النفسية بهرمون الثقة بالذات. وقد يعود نقص الثقة بالذات أحياناً إلى انخفاض المستوى المعرفي عن الحد الكافي للقضاء على المخاوف الناتجة عن الجهل. وبما أن هذه العقلية لا تنفك تتسبب في تفويت المكاسب الثقافية والتقدمية، ففي تصوري أن السعي إلى التعافي منها بات من الأولويات. ولعل البدء في ذلك ينطلق من النظر بإيجابية إلى النماذج التي تقتحم الواقع بأدوات جديدة كلّ مرة، ونبذ المقولات التي تفضّل تجنب الخطأ وإن أدّى إلى غياب التجربة، فالمتأمل لحركة العمران البشري يعرف عدم صواب هذا المنحى ويعي أن الأخطاء وإن لاح ضررها إلا أنها في الجملة خطوات نحو الغاية الصحيحة. كما من المفيد معرفة الحكمة الكامنة في تلك العبارة المنسوبة إلى سفيان الثوري: (العلم عندنا هو الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد)، حيث تبدو فطنة الإمام المبكّرة إلى توافقية المتخلف مع عقلية "سده واستريح" في الوقت الذي تتواءم فيه جسارة العالِم مع فتح الأبواب بالرخصة، متصديا لتداعيات ذلك من تفريعات وتوازنات. تلك التداعيات التي تنكمش أمامها العقول الصغيرة فرقاً، بينما ترى العقول الكبيرة فيها ثراء وإثارة تستخرج كوامنها وقدراتها، في نشاط جدلي تقدمي، لعله كان المحرك الأول في بناء كل حضارة وصعود كل ثقافة.