×
محافظة المدينة المنورة

العثور على جثتين مفقودتين في حادث حريق مستودع

صورة الخبر

بهدوء كهدوء كلماته الأولى، طوى مغني أفريقيا وعازف ألحان الدراويش المتجولين محمد الفيتوري دفتر أيامه مودعا عالما عربيا صاخبا ومستفزا، ومن الدار البيضاء التي كساها من بياض كلماته صعدت روح الأسمر المتوهج إلى بارئها، مورثا لنا بساطة الشاعر وزهو الكلمات وهي تتردد في أسماع الدنيا «لم أعد عبد قيودى، لم أعد عبد ماض هرم عبد وثن، أنا حي خالد رغم الردى، أنا حر رغم قضبان الزمن، فاستمع لي.. استمع لي، إنما أذن الجيفة صماء الأذن» تعذر توصيفه مثلما تعذر تصنيفه وتعددت أوجه عشقه تعدد الوطن والهوية، ولذا قال «خارجا من دمائك تبحث عن وطن فيك مستغرق في الدموع، وطن ربما ضعيت خوفا عليه وأمعنت في التيه كي لا يضيع أهو تلك الطقوس؟» ، وإن كان الفيتوري أفريقي الأصل إلا أنه عروبي الهوى والهوية، أليس هو القائل «الهوى كل هوى دون هوانا، نحن من أشعلت الشمس يدانا، والخطى مهما تناءت أودنت، فهي في دورتها رجع خطانا، وإذا التاريخ أغنى أمة بشهيد فألوف شهدانا، وإذا الثورة كانت بطلا، يطأ الموت ويحتل الزمانا، فلنا في كل جيل بطل، مجده يحتضن المجد أحتضانا، عرب نحن وهذا دمنا، يتحدى في فلسطين الهوانا، عرب رايتنا وحدتنا، حلقت صقرا وحطت في سمانا، عرب لا أمضغ الملح، ولا أكسر السيف بعيني مهانا» ، كان منحازا للبسطاء مع سبق الإصرار والترصد، وإن كان يسهر مع الأثرياء، إلا أنه ينثر خبز المفردات على أرصفة المعذبين في الأرض كيف لا وهو القائل «دنيا لا يملكها من يملكها.. أغنى أهليها سادتها الفقراء، الخاسر من لم يأخذ.. ما تعطيه على استحياء، والغافل من ظن أن الأشياء هي الأشياء»، صوفي النزعة من خلال شفيف الكلمات والشغف بالسؤالات المرة «في حضرة من أهوى عبث بي الأشواق، حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق، وزحمت براياتي وطبولي الآفاق، عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق، مملوكك لكني سلطان العشاق»، ولد الفيتوري عام 1936 في الجنينة عاصمة دار مساليت غرب السودان لأب من شيوخ الطريقة العروسية، الشاذلية بالسودان، ونشأ في مدينة الاسكندرية، وهناك حفظ القرآن الكريم ودرس بالمعهد الديني بالاسكندرية، ثم انتقل إلى القاهرة وأكمل تعليمه في كلية دار العلوم، عمل محررا أدبيا بالصحف المصرية والسودانية، وكتب ديوانه «أغاني أفريقيا» 1956، و«عاشق من إفريقيا» 1964، و«اذكريني يا أفريقيا» 1965، ومسرحية «أحزان أفريقيا»، ويعد الفيتوري من الشعراء المجيدين في طليعة الحركة التجديدية الشعرية العربية أمثال السياب والبياتي وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل، وتغنى بقامة فارعة بالضاد وبلسانها وبحب أفريقيا التي عبر عن محنة إنسانها وتمرده ونضاله، والفيتوري المثقف شغوف بالحرية والديمقراطية، وكان له مكانة كبيرة في العالم العربي، إذ تم اختياره خبيرا إعلاميا بالجامعة العربية، وعمل مستشارا ثقافيا بسفارة ليبيا في إيطاليا ومستشارا وسفيرا بسفارة ليبيا في بيروت، ومستشارا سياسيا وإعلاميا بسفارة ليبيا بالمغرب الذي تزوج منه وعاش فيها آخر أيام حياته. ويرى الشاعر خالد قماش أنه لا ينبغي أن نحزن كثيرا لرحيل المبدعين، ذلك لأن أجسادهم تفنى وتبقى أرواحهم تشع بالجمال، وشاعر أفريقيا الكبير محمد الفيتوري عاش يهجس بأغاني أفريقيا وكان نصيرا للمشردين والمطحونين في هذا العالم، وأضاف قماش أتذكر في تسعينات القرن الماضي التقيته في مهرجان الجنادرية، وتحديدا عام 1998م، وكان الحضور كبيرا لأسماء كبيرة؛ مثل الشعراء عبدالوهاب البياتي وعبدالرحمن الأبنودي وماجد يوسف، وسيد حجاب، وكان يملأ المكان شعرا وجنونا بصوته الجهوري وشاعريته الفاخرة، وفي إحدى مساءات الجنادرية الباردة خرجنا سويا خارج القاعة لنرشف كوب قهوة، وعند رجوعنا للقاعة رفض المنظمون دخول الفيتوري بحجة أنه لا يملك بطاقة الضيوف، وكنت أحاول إفهامه بأن هذا هو الشاعر الكبير محمد الفيتوري، وتدخل الإعلامي القدير جابر القرني لينقذ الموقف ويحافظ على مزاجية الشاعر. ويؤكد القاص والروائي محمود تراوري أن روح آخر كبار «القصيدة الحديثة» في الشعر العربي صعدت إلى السماء. وأضاف الفيتوري أصدق من صدح بمعزوفة الدراويش.