تحدثنا في مقال سابق عن (الأنا وكتلة الألم)، وعرفنا أن كثيرا من ردود الفعل التي نراه لا نجدها في الحدث أو الوضع، إنما هي تضخيم متعمد للحدث من قبل (الأنا) لاحتياج كتلة الألم له، فهي تتغذى على هذا النوع من ردود الأفعال ويشعرها أنها ما زالت حية، والأشخاص المسكونون بكتل الألم والذين يحملون طاقة ألم ثقيلة يصعب عليهم الخروج من تفسيراتهم المشوهة للواقع والأحداث. إن ردود الفعل المبالغ فيها وغير المبررة تصبح هي ردود الفعل الصحيحة الوحيدة الممكنة بالنسبة لصاحبها، اللوم والاتهام والغضب والشك والتذمر والهجوم، إنهم لا يرون أنفسهم إلا من خلال قصتهم الحزينة، تصبح ماهيتهم وتصبح هي (الأنا) التي يُعرفون أنفسهم بها، ولكن لماذا كل هذا؟ لماذا لا تموت كتلة الألم فينا؟ وما الذي يبقيها حية؟ وكيف ولأي غرض؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابة. شرعت في البحث والقراءة والاطلاع، وجدت أن (الأنا) تتشبث بقصتها الحزينة، لأنها بذلك تظهر لنفسها ولغيرها كضحية، وبذلك تستطيع أن تبرر أي تقصير أو خطأ وتحمي نفسها من أي لوم أو مسؤولية. وجدت أن كتلة الألم لا تموت لأنها تقتات وتتغذى على كل حادثة تثير وتوقظ كتلة الألم فيكون رد الفعل المبالغ فيه للحدث بمثابة النار التي توقد جذوة طاقة كتلة الألم وتغذيها وتقويها وتعيد لها الحيوية والنشاط والقوة، لوم واتهام وغضب وتماه تام مع كل ما ينسجه العقل من خيال لدعم قصتي الحزينة ولتبرير ردود فعلي، كيف لا وأنا ضحية؟ وكل ذلك بالنسبة لكتلة الألم بمثابة غذاء تقتات عليه، فيصبح للألم لذة لا شعورية على مستوى العقل اللا إرادي واللا واعي، لأن فيه تقوية للـ(أنا) المتماهية مع كتلة الألم. وبعد فترة قد تكون ساعات أو أياما تعود كتلة الألم إلى خمودها وكمونها بعد أن تكون قد استوفت حاجتها من طاقة تحييها وتقويها وتترك صاحبها وراءها منهكا مستنزفا وقد سلبته طاقته ليصبح عرضة للأمراض. إن كثيرا من النزاعات والصراعات الزوجية منشؤها كتل طاقة الألم هذه، بل تحاول طاقة الألم السلبية هذه أن تستفز الآخرين بين الحين والآخر لكي تتغذى وتقتات على المشاحنات والتوترات والمواقف الدرامية، بل هناك ممن يحملون طاقة ألم ثقيلة يستفزون دون أن يشعروا كتلة الألم في الآخرين بمجرد وجودهم في المكان بمجال الطاقة السلبية الكبيرة التي تحوطهم، وتجد طريقها لاستفزاز واستثارة وإيقاظ مجال الطاقة السلبية في حاملي كتلة الألم الثقيلة، إنهم يتفاعلون مع قوة سلبية مشتركة موجودة فيهم، فلا غرابة أن يجد حاملو كتل الألم الثقيلة أنفسهم في كثير من الأحيان في نزاعات وصراعات دائمة. كم من المشاجرات حدثت بين اثنين في الأسواق أو في الطريق دون مبرر واضح، وكلاهما بعد الشجار لا يستطيعان تبرير ما حدث بالعقل والمنطق. إننا نستطيع اليوم تصوير الهالة النورانية التي تحيط بكل إنسان بجهاز Kirlian، وهذه الهالة هي حقل كهرومغناطيسي قوي يحيط بجسد كل إنسان على شكل إطار بيضاوي، وكل عاطفة لها ذبذباتها ولونها وهالتها الخاصة بها، فهالة مشاعر الحب والسعادة غير هالة مشاعر الكره والبغض والحزن. ترى هل كتل طاقة الألم الثقيلة لها تأثير كذلك على هذه الهالة النورانية وهي التي تتنافر مع الهالات التي تحمل كتل طاقة ألم مثلها؟ تساءلت: كيف يمكن معالجة كتلة الألم؟ الباحثون يجيبون بكلمة واحدة بـ(الوعي).. الوعي الذي يؤدي إلى الحضور وبإدراك ماهية كتلة طاقة الألم وطبيعتها، وبإدراك أنها جزء من (الأنا) التي فينا وليست ذاتنا الحقيقية، وبمجرد حصول هذا الإدراك والفهم والوعي والحضور يتلاشى التماهي مع كتلة الألم، فلا تصبح قصتي الحزينة أو مشاعري الدفينة جزءا من هويتي، ضوء الوعي سيبدد الظلام الذي تختبئ فيه كتلة الألم ويكشفها ويعريها لذاتك الحقيقية، عندها أستطيع أن أفرق بين الحدث وبين رد الفعل للحدث، بين الموقف ورد فعل الموقف، وأستطيع أن أدرك المشاعر والعواطف التي تنبع من كتلة الألم التي فيَّ لتلبس الحدث ما ليس فيه، وتختطفني بردود فعل مبالغة من أجل أن تتغذى على رد فعلي العاطفي المبالغ فيه وتقوي بذلك الأنا التي فيًّ. أما في حالتي فعندما أدركت بوعيي أن رد فعلي هو صرخة كتلة طاقة الألم التي فيَّ، فإن مجرد هذا الوعي جعلني أتعامل بعد ذلك مع هذا النوع من القضايا بطريقة مختلفة جدا كنت فيها أكثر عقلانية وموضوعية، وكانت ردود فعلي تتناسب مع الحدث. وأثناء البحث استوقفتني جملة قرأتها في كتاب (أرض جديدة) تقول: (إذا جئت من عصر آخر أو كوكب آخر فإن أكثر الأشياء التي ستذهلك هو ملايين البشر الذين يدفعون المال مقابل رؤية بشر يقتلون بشرا آخرين ويتسببون لهم بالآلام ويسمون ذلك ترفيها)، لقد هزت هذه الجملة كياني. نعم ما أصدق هذه الجملة، صناعة كاملة دعامتاها الجنس والعنف، صناعة كاملة أصبح هدفها تغذية الإدمان الإنساني على التعاسة، أليست هذه كتل ألم، طاقة سلبية تجدد نفسها بصور غير مباشرة من خلال هذه الأفلام العنيفة المريضة، كتل ألم تكتب وكتل ألم تخرج وتنتج، وكتل ألم تدفع لتشاهد، وكل هذا يغذي كتلة الألم الجمعية والتي هي أشد وأخطر فتكا ودمارا للإنسانية، فكتل طاقة الألم مترابطة ومتصلة مع بعضها بعضا وتؤثر سلبا على الوعي الجمعي على مستوى المجتمعات والعالم بأثره. أوبعد كل هذا نتساءل لماذا نعيش في عالم تسوده القسوة والقتل والظلم والقهر والعنف والدمار، أدركت أن كتلة طاقة الألم الجماعية تتغذى على الآلام التي عانتها البشرية على مدى تاريخ الإنسانية من حروب عالمية وإبادات جماعية ونهب واغتصاب وتعذيب واستبداد وعبودية، وكتلة الألم الجماعية هذه تتراكم وتتسارع بصورة يومية في عالم أصبح أشبه ما يكون بقرية عالمية، وهنا جال بخاطري ومخيلتي نشرة الأخبار اليومية، فقلت في نفسي: إن ما تعرضه علينا أخبارنا اليومية لهو خير شاهد ودليل على حجم المأساة الإنسانية. أحاطتني هالة من الاكتئاب وأنا أفكر فيما صار إليه عالمنا، وكأن سحابة سوداء قد حجبت عني ضوء الشمس، ما هو الحل وكيف الخروج وماذا بوسعي أن أفعل؟ وفجأة أتاني صدى كلمات من أبيات لسيدنا علي يقول فيها: دواؤك فيك وما تشعر وداؤك منك وما تبصر وتحسب أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر وأنت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر نعم لقد جعل الله في كل نفس العالم الأكبر، ففي كل نفس نفخة الرحمن، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه، وأنت الكتاب المبين.. نعم الإنسان هو المعجزة الحقيقية في الإسلام، كيف استطاع القرآن عندما أفرغ في كيان إنسان بسيط في الصحراء أن يجعل منه مركز العالم في أقل من عقدين من الزمان في أسرع وأغرب وأعظم طفرة حضارية في تاريخ الإنسان، بل إن الإحساس بالعجز والسؤال باستنكار ماذا بوسعي أن أفعل، هو ظلم في حد ذاته للنفس وظلم للأمانة التي حمّلها الله الإنسان. قررت أن أبدأ بنفسي وأن أسهم في إيقاظ وعي غيري، فكل يقظة وعي فيها تبديد لكتلة ألم، ومع كل كتلة ألم تغادر هذا العالم تزداد طاقة كتلة الوعي الجمعي وتقل معاناة وآلام الجنس البشري.