اتخذ الروائي التونسي الهادي ثابت من كوكب «قانماد» (أكبر أقمار المشتري) فضاءً نصياً لروايته «مدينة النهار الأزلي» (دار سحر للنشر). لكنّه جعله آهلاً بسكان يشبهون سكان الأرض، مع فارق أنهم يمتلكون حضارة تتفوق على حضارة الأرضيين في الميادين كافة. من الواضح أن الروائي كان مهموماً بهذه الإشكالية، فكتب ثلاثية روائية بدأها بـ»غار الجن» (نالت جائزة نهاد شريف، رائد الخيال العلمي العربي)، ثم رواية «جبل علّيين»، وأخيرا «مدينة النهار الأزلي». يفتتح الكاتب روايته بنص يشير فيه إلى ما يربط الروايات الثلاث، تقريب عالمين مختلفين: عالم الواقع بحرارته، وانفعالاته وأزمنته، وعالم الخيال المبتكر من فكر، وطموحات، بما في ذلك نظرة الكاتب إلى الكون. وابتعد الكاتب عن خلق الصدام بين الأرضيين وسكّان الفضاء، كما هو شائع في روايات الخيال العلمي المنتشرة في الغرب، بل سعى إلى تقريب الهوة بينهما، وجعل عالم الواقع يرقى إلى عالم الخيال. وكانت نهاية الرواية الأولى انفتاحاً على بداية الرواية الثانية من دون المسّ بالحيزين المكاني والزماني للرواية الثانية. إبراهيم، الشخصية المحورية في الرواية، إنسان أرضي بسيط كان أسيراً لدى سكّان كوكب «قانماد»، وهؤلاء يمتلكون على الأرض مركزاً لأبحاث علمية لم يفطن إليه الأرضيون. وبعدما دخل إبراهيم صدفةً إلى هذا المركز، قرر «القانماديون» إرساله إلى كوكبهم ليعيش تجربة التأقلم مع حضارتهم. إلا أنّ راوياً آخر (قارينا) يتدخّل هنا ليروي جزءاً من الرحلة. قارينا، فتاة تنتمي إلى هذه الحضارة التي سعى إبراهيم لاكتشاف أسرارها. علاقة خاصة تنشأ بين إبراهيم (الأرضيّ) وقارينا، فتاة قانماد التي تُطلعه على قيم حضارتها وحياتها على هذا الكوكب، مما يدفعه إلى خوض مغامرة البحث في جذور هذه الحضارة وتاريخها. إبراهيم وقارينا، الشخصيتان المحوريتان، يتناوبان على سرد تفاصيل الرحلة بين الأرض والفضاء. وشيئاً فشيئاً، يتابع القارئ تطوّر شخصية إبراهيم الذي اختاره الكاتب بسيطاً في معارفه وتجربته ليغدو من ثمّ باحثاً عن حياة أناس يتقدّمون عليه رقياً ومعرفة. يظلّ إبراهيم مكبلاً بأغلال ثقافة متحجّرة، مهووساً بقضايا الجسد والجنس، كأنّه يريد بذلك التلميح إلى ذهنية البشريين على هذه الأرض، وخصوصاً في المنطقة التي نسكنها نحن. تأخذك الشخصيات في رواية الهادي ثابت إلى عوالم لم تفكّر في وجودها، لتنغمس فيها وترى ما لم تكن ترغب في رؤيته. في نهاية الرواية يتشبّع إبراهيم بقيم حضارة «قانماد»، فيتحول من رجل يعيش على السليقة إلى إنسان يبحث عن المعرفة ورقي العقل وفرض الذات الخلاقة: «كنت خالي البال من كل شيء، هنا تعلمت أنّ الناس لا يخافون المستقبل، لكني لم أع جيداً تخوفات زينة. ولم أقابل يوماً رئيسة جمعية بذور الحياة حتى أفهم احتراز زينة عليها. خرجت أتجوّل بمفردي في الحديقة المعلقة. سرت بين مساربها المتشعبة الظليلة، ولم انتبه لكل ما يدور حولي. كان الطقس جميلاً، كما هو دائماً في مدينة النهار الأزلي، وكان النور ينساب من سماء صافية شفافة، لم تكن سماء قانماد زرقاء كسماء الأرض، بل بيضاء مثل سماء الظهيرة في الصحراء. وفجأة غمرتني أصوات تعلو بنداء وكأنه آت من السماء». تُعرّف هذه الرواية بعالم جديد قد يكون آتياً من غياهب الفضاء الكوني. حاول الكاتب نحت ملامح هذا العالَم في صور سردية جعلته يقترب شيئاً فشيئاً من عالمنا البشري. فحاول أن يصور صراع الإنسان من خلال الجسد في صراعه مع العقل، وهو صراع أرهق الإنسان منذ وجوده، وظل يراوح بين العقل والجسد إلى يومنا هذا. اكتملت إذن مع هذه الرواية حلقات «المسارة»، واكتشف إبراهيم، الشخصية المحورية، عالمه الجديد، لا هو عالم الميتافيزيقيا ولا هو عالم الحداثة ولا حتى عالم ما بعد الحداثة، إنه عالم الوعي بقيمة الإنسان عقلاً وجسداً في تناغم لرفع التحدي الذي يفرضه عليه الكون بغبائه وذكائه، بقصوره وعظمته، بويلاته ورقّته. «ونظرت إلى الأطفال أتفحص الوجوه وهي في وجومها غارقة، ثم لوّحت لهم بابتسامة وحدثتهم عن كوكبي». تبحث هذه الرواية في قيمة الزمن في السرد الروائي. تطرح الزمن كصورة للواقع وللخيال، وتسعى إلى تراكب الأزمنة، الماضي والحاضر والمستقبل. تعيش الشخصية خارج الزمن الأرضي، لكنها تحمله داخلها، فيتحول إلى صدام الزمن المعيش خارج زمن الأرض، والزمن المخزون من زمان الأرض، وصراع الأزمنة في الرواية المقصود منه هو تعرية حقيقة الإنسان ككائن زمني، لا يمكنه رؤية الواقع إلاّ من خلال الخيال، بما أن الرواية قطعة من الزمن يحاول الراوي إلباسها زمن الواقع. من ناحية أخرى، يسعى الروائي عبر جدلية الزمن إلى أن يصوّر الواقع الراهن لإنسان الأرض وفي الآن نفسه يستشرف مستقبل هذا الإنسان من خلال راهن أناس «قانماد» الذين يمثلون المستقبل المتخيل للحضارة البشرية الراهنة، وهو يُنبّه إلى أن هذا المستقبل البعيد محفوف بالمخاطر إذا لم يعِ الإنسان خطورة الوضع المتردي الذي أصبحت عليها الحياة على الأرض. أراد الكاتب لهذا النوع من الكتابة أن يكون تجسيداً لما يُسمى بأدب الرحلة المعاصر، بحيث جاء الأسلوب مختلفاً عن التصوّر الذهني لأدب الرحلة التقليدي. فلا أحداث كبرى، ولا عقدة درامية، إنما هي أحداث تستجيب لانطباعات الشخصية وتحركاتها. وإذا كانت رواية «غار الجن» تُعرّف بعالم الخيال، فرواية «جبل عليّين» تسبر غور محطات وأماكن غريبة، وتأتي «مدينة النهار الأزلي» لتذهب بنا إلى ذلك الفضاء الواسع الممتد بين الأرض والمشتري. وكما هي العادة في أدب الرحلات، تضمنت الرواية شخصية تمثل الأرضي المتقدم الذي يتطلّع إلى العلم والمستقبل، في مقابل الليل لما له من رمزية الظلمة التي تصيب العقل البشري الذي يرتد بنا إلى الماضي والفكر الماضوي. يؤكد الهادي ثابت في ثلاثيته هذه أن الإنسان الجديد نتاج العلم الدقيق المراقب بضوابط شديدة لا تجعله يهيمن على عقل الإنسان الذي يكون المنبع والهدف. أناس الفضاء أو «قانماد»، ينمون في أرحام اصطناعية، ويتربون بطرق تجعلهم قادرين على التعايش مع محيطهم البشري والطبيعي. إنها ممارسة حرّة وواعية من دون ضغوط من أي جهة كانت، فالعلم في ذاته لا يخدم الشرّ أو الخير، لكنّ الأهداف التي تضعها هي التي تحدّد الاتجاه، فإما تنتج خيراً أو شرّاً.