هل يعيد التاريخ نفسه؟ سؤال أرهق فلاسفة التاريخ كثيرا. فالواحد منهم يقرأ التاريخ القومي لروما ــ مثلا ــ ويقارنه بتاريخ بلاده يجد متشابهات كثيرة. ومن ثم يبدأ باتخاذ تاريخ روما كخريطة للمستقبل. وهذا يفسر طموحات قادة كبار كنابليون وفريدريك الثاني وموسوليني وغيرهم ممن استلهموا تاريخ الماضي (الروماني) وأرادوا تكراره. لكن هناك من وقف لهم وقال: التاريخ لا يكرر نفسه. كان هيجل يرى أن التاريخ يعيد نفسه مرتين، (أي يكرر نفسه). ورد عليه ماركس: إذا حدث التاريخ مرتين فإنه يحدث في المرة الأولى على شكل مأساة (تراجيديا) وفي المرة الثانية على شكل ملهاة (كوميديا). والشاهد أن المرة الثانية تكون تقليدا مضحكا للأولى التي كانت جادة وحقيقية. وهذا حدث مع موسوليني الذي انتهى نهاية ليست مأساوية كما قد يبدو بل «ملهاوية» . وهكذا كانت نهاية القذافي الذي أراد أن يكون هنيبعل الثاني. في ثقاتنا العربية هناك محاولات جادة لإقامة علاقة تاريخية بين عصر التنوير في أوروبا ومحاولات التنوير في العالم العربي. فأوربا ــ كما هو معروف ــ عاشت قرونا طويلة من الظلم والتخلف والجهل وانتشار المرض.. لكنها ما لبثت أن انتفضت وحلقت في سماء التحضر بعيدا عن كل الأمم الأخرى. والعالم العربي يمر اليوم بالمراحل نفسها التي مر بها الأوروبيون.. وتحديدا الفرنسيون. فالتنوير الفرنسي أكثر إغراء للعربي من التنوير الإنجليزي أو الألماني.. وربما أن العنف المصاحب للأول، والذي عجل التنوير، هو ما يفسر إغرائية التنوير الفرنسي. فهل حقا أننا نعيش ما عاشه الفرنسيون؟ هل يعيد التاريخ نفسه اليوم؟ في فرنسا، قبل ثورة ١٧٨٩م، كان الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي متدهورا إلى أقصى حد. وكان هناك تحالف للقوى الثلاث: رجال السياسة ورجال الدين ورجال المال. وكان ذلك على حساب الشعب. فبرز من الأنقاض رجال الفكر والفلسفة والأدب وحاولوا بشتى الطرق تنوير عقول الناس وتعليمهم معنى الحرية والكرامة والاستقلال. وحدثت الثورة. ولكن هل كان للمثقفين دور؟ قيل نعم، وقيل لا، وقيل بين بين. ما يهم الآن هو: هل يكرر «التنوير» نفسه؟ أشهر مفكر عربي معاصر يرى ذلك هو حسن حنفي. يرى هذا الرجل أن العرب مروا بسبع قرون سمان (وهي القرون السبع الأول منذ ظهور الإسلام) ودخلت في سبع عجاف. وفي الوقت نفسه كانت أوروبا تعيش القرون العجاف وهي الآن في مرحلة «السمان» !. وقريبا ستنتهي القرون السمان الأوروبية لتعود الدائرة إلى العرب والمسلمين. والتاريخ هنا يكرر نفسه بشكل لولبي متصاعد لا خطي. وقد انتقد علي حرب هذا الرأي واعتبره ضربا من الكهانة لا العلم. بعض المثقفين العرب اليوم يتقمصون دور فلاسفة التنوير الفرنسي (فولتير، مونتيسكيو، روسو، دالامبير، هولباخ..) إيمانا منهم أننا نعيش اليوم ما عاشته فرنسا في تلك العصور. والتشابه فعلا موجود. وهذه الروح جميلة. لكن الواقع التاريخي مختلف. ما أرفض الاقتناع به هو التالي: يرى البعض أننا نسير خطوة خطوة بالطريقة التي سار بها التنوير الأوروبي. وأن بذرة التنوير يجب أن تستغرق وقتا طويلا لكي تصبح ثمرة. وهكذا. المشكلة في هذا الرأي أنه فعلا يرى أن التاريخ يعيد نفسه حرفيا! وهذه سذاجة وكهانة «حنفية» (نسبة لحسن حنفي). التنوير الفرنسي ظهر قبل قرنين من الزمان. ماذا يعني هذا؟ يعني أنه ظهر قبل اختراع السيارات والطيارات والتلفون والتلفاز ونسبية إنشتاين والفلسفات النقدية والإنترنت والحروب العالمية... إلخ تغيرات راديكالية حدثت وقتئذ. وهذه التغيرات تنسف كل حسبة تاريخية من النوع الكهاني. هل نقول إن الإنترنت والتلفاز والطيارات سوف تسرع التنوير؟ ربما. وربما لا. الدليل أن هذه الوسائل التقنية قد استخدمت من قبل أعداء التنوير؛ الظلاميين والماضويين. سوف يحدث تغيير ولكن ما طبيعته؟ هل سيكون في صالح التنوير أم في صالح التظليم؟ لا أحد يملك الجواب القطعي ومن يزعم ذلك فقد أخل بالمنهج العلمي.