كان مفاجئًا لكثيرين في هوليوود مرور فيلم كريستوفر نولان «نجمي» Interstellar مرورًا شبه عابر أمام جمهور مرتادي السينما. الآن، والفيلم انطلق على أسطوانات في الأسبوع الماضي، يتصدّر قائمة أكثر الأسطوانات الأميركية مبيعًا، لكن هذا الفيلم الخيالي - العلمي - المستقبلي حقق داخل الولايات المتحدة حين عرض في أواخر العام الماضي 188 مليون دولار في مقابل التكلفة التي بلغت 165 مليون دولار. ولولا أن السوق العالمية استوعبته على نحو جيّد، إذ تجاوزت إيراداته فيه 660 مليون دولار، لدخل خانة الخسائر الكبيرة. أحد الذين فوجئوا بهذا الإعراض بين الجمهور الأميركي كان مخرج الفيلم كريستوفر نولان. إن لم يكن بسبب أن الفيلم من النوع الخيالي، فعلى الأقل لأن الجمهور الغالب يدرك أنه يقف وراء نجاحات فائقة من قبل. يكفي أنه أنجز ثلاثة أجزاء كبيرة من «باتمان» مجموع ما حققته عالميًا يتجاوز الثلاثة مليارات دولار. لقد حوّل نولان الشخصية المعروفة من مجرد بطولة خارقة معهودة إلى شخصية أقرب لأن تكون واقعية بمعايير الأدب الذي جاءت منه. الجزء الأول من الثلاثية الحديثة من مسلسل «باتمان» التي انطلقت، سنة 2005، بفيلم «باتمان يبدأ» وتوسطت بفيلم «الفارس الداكن» (2008) وانتهت بـ«الفارس الداكن يرتفع» (2012). بين كل المشاريع التي آلت إليه اختار مشروع فيلم «نجمي» ومن بين كل الممثلين الذين يتمنون العمل تحت إدارته اختار ماثيو ماكونوهي. فيلم «نجمي»، بحد ذاته، عمل رائع الصورة وعميق الدلالات. يقع في المستقبل المنظور، حيث انخفض الأكسجين وارتفعت نسبة النيتروجين. في الزمن المستقبلي غير البعيد، يعاني الناس، كما المحصولات الغذائية، من خطر اضمحلال شروط الحياة إذ ما عاد ينفع زراعة أي شيء باستثناء الذرة وحتى هذه لن تعيش طويلاً. النهاية مخيفة، لكن كوبر (ماكونوهي) ربما ما زال لديه أمل ما. هنا في هذه الفترة من الفيلم يبني نولان أرضيّته ليس للحكاية وحدها، بل للعلاقات الإنسانية الحميمة بين أفراد الأسرة الواحدة. هذه العلاقة يحملها كوبر معه إلى الفضاء عندما يصدّق قول العالم (مايكل كاين) إن الحل إنما يكمن في الفضاء لأجل نقل إنسان الغد من الأرض إلى كوكب آخر. * الرداء الأسود «نجمي» كان أكثر من مجرد فيلم خيالي يستند إلى بعض الواقع الحاضر (التلوّث البيئي، الانحباس الحراري.. إلخ). كان رغبة في رثاء الإنسان وتصوير حتمية نهاية مظلمة. لا بديل للأرض والأرض باتت تئن تحت وقع ما يحدث عليها. بالإضافة إلى ذلك، هو فيلم رائع في بصرياته وتقنياته. أخذ المخرج نولان من فيلم ستانلي كوبريك الإبهار التقني في «2001: أوديسا الفضاء» ويستوحي الهم الإنساني من فيلم أندريه تاركوفسكي في «سولاريس» وعالجهما مضاعفين. لا تعرف ما تتوقع على أي صعيد ولا يشتبك الفيلم بين المغامرة الخيالية العلمية وبين البوح الإنساني الرائع الذي يربط بين شخصيات الأرض وشخصيات الفضاء. يتوه قليلاً قبل ربع ساعة من نهايته، لكنه يعود إلى خطّه المستقيم سريعًا من بعد، لكن توهانه ذاك ليس نتيجة ضعف أو ركاكة، بل مجرد مد خط إضافي كان يمكن تجاوزه (المشهد الذي يرى فيه كوبر ابنته من وراء عالم موازٍ بخمسة أبعاد). وُلد نولان في الثلاثين من شهر أغسطس (آب) 1970. بعد 28 سنة أخرج فيلمه الأول Following. بعد عامين احتل مكانته في فيلمه الثاني مباشرة وهو «ميمونتو». هذا كان فيلمًا تشويقيًا حول رجل فقد ذاكرته جزئيًا ولا يستطيع أن يسرد ما حدث له إلا بتتبع خطواته من الحاضر إلى الأمس بالتدريج. بالتالي، حقق نولان الفيلم بالشكل نفسه. سرد الحكاية من النهاية إلى البداية ولفت الأنظار لا بين النقاد فقط، بل بين المشاهدين. لاحقًا ما وجد نفسه أمام وضع مشابه إلى حد في فيلمه «أرق»، حيث آل باتشينو هو التحري الذي يستعصي النوم عليه والذي لأسباب وظروف يقتل عرضًا (أو قصدًا) زميلاً له في أحداث تقع في ألاسكا. هذا كله قبل أن يتسلم نولان دفّة «باتمان» في ثلاثيتها الجديدة. وكما منح فيلميه المذكورين «ميمنتو» و«أرق» غوصًا نفسيًا يفصل ما بين الفيلم البوليسي والتشويقي المعتاد وبين ما ينجزه هو في إطاره، قام في «باتمان يبدأ» بتقديم عمل رائع لا يخلو من البحث في الظروف والدوافع النفسية في الوقت الذي لا يزال يسرد فيه حكاية مبهرة حول ذلك التحري ذي الرداء الأسود الذي يسعى لإنقاذ نيويورك من الفساد القائم. * الفن أو الجمهور ما بين عرض «نجمي» على الشاشة وبين إطلاقه على أسطوانات، جلس نولان يتحدّث عن فيلمه ورؤيته للسينما التي يهوى تقديمها. والملاحظة التي يخرج بها المرء حين مقابلته هو رغبته في إيضاح كل شيء كما لو كان يدرك أن أفلامه هي أعمق (بقليل أو بكثير) من العشرات من الأعمال المشابهة لها كنوح أو كصفة إنتاج. وفيما يلي نص الحوار: * لماذا في رأيك تختلف أفلامك عن أفلام سواك؟ هناك الكثير من أفلام الخيال العلمي وأفلام السوبر هيرو، لكن أفلامك مميّزة لا بإتقانها وتفاصيلها فقط، بل بتلك النظرة الباحثة في الجانب النفسي لشخصياتك؟ - لقد قلتها.. أهتم بالجانب النفسي للشخصيات لأنني لا أؤمن بأن الشخصيات التي تظهر على الشاشة يجب أن تكون مسطّحة. لا يوجد في الواقع شخصية ببعدين. كل واحد منّا يملك عمقًا ثالثًا. ما أحاول تجنّبه هو أن تكون الشخصيات مربّعة الأضلع على الشاشة. هذا لا يعني بالضرورة تركيب الجوانب النفسية والشخصية فوق بعضها البعض لكي أخلق كثافة. كل شيء يتبع عملية التأليف ذاتها التي يجب أن تراعي مسائل أخرى مثل رغبة الجمهور في استيعاب هذه الشخصيات وكيفية التجاوب معها من دون أن ينتج عن هذه التجارب أي تسطيح. * ما الذي تهتم به أولاً.. أنت أو فنك أو الجمهور؟ - أنا وفني واحد. أقدم ما أعتقد أنه طريقتي وما أحبه في السينما وأتمنّى أن يجد القبول بين المشاهدين. * هل تجد أن أفلامك صعبة على الجمهور؟ وهل تعمد إلى التنازل لأجل أن تحقق رؤيتك نجاحات تجارية؟ - سؤالك شائك؛ لأن رغبتي من وراء عملي هي تقديم أفلام تثير الجمهور، لكنني أتمسّك في الوقت ذاته بما أراه المستوى الذي أريد العمل فيه. كل شيء في «نجمي» قائم على هذه الغاية التي لا تستبعد الجمهور مطلقًا لأن السينما هي للترفيه أولاً. الاختلاف هو أن تكون للترفيه الجيد في الوقت ذاته. مهم جدًّا بالنسبة لي أن أقدم للجمهور قصّة تصلح للتداول بعد الخروج من الصالة. بعد المشاهدة. الفيلم رحلة. أقصد أي فيلم هو رحلة الغاية منها أن تكتشف ما تعود منه بخبرات ومعرفة وتتذكره بسعادة. كمنظم الرحلة يسعده أكثر إذا ما وجد الكثير من الناس تريد الاشتراك فيها. لكن عليه أن يكون جاهزًا ليؤمن ما يريدهم العودة به من تلك الفوائد. * اختيار ماثيو ماكونوهي ومن قبله كريستيان بايل في أفلام «باتمان» وليوناردو ديكابريو في «تمهيد» هو جزء من رغبتك في الوصول إلى أكبر عدد من المشاهدين؟ - كل واحد من الذين ذكرتهم هو ممثل جيّد قبل أن يكون نجمًا كبيرًا. وأنا أريد الممثل الجيّد وإذا ما استطعت اختيار الممثل الجيّد الذي هو نجم كبير فليكن. كنت أعرف أن ماكونوهي ممثل رائع بصرف النظر عن الدور الذي يقوم به، لكن شعبيته لم تغب عن بالي في الوقت ذاته. المهم عندي هو أنني وضعت شخصية مثيرة للتأمّل أو للمتابعة أو التجاوب وحتى أفعل ذلك عليها أن تكون مثيرة بحد ذاتها وهذا يتطلب ما ذكرته سابقًا وهو تأليف شخصية ذات أبعاد. * في «نجمي» أو في سواه، طالما نتحدث عن عمق مدلولات الأفلام التي أخرجتها وشخصياتها، هل تجد أن ما تريد الوصول إليه واضح لدى الممثلين أم تلجأ إلى الجلوس مع كل منهم لتفسير ما تريد؟ - السيناريو مكتوب لكي يكوّن للممثل، وللآخرين طبعًا، ما هو مطلوب منه. ما الذي عليه أن يتوقعه من دور وهذا ما سيدفعه للتفكير في الشخصية وكيف سيقوم بتمثيلها. لكن الجلسات ضرورية. السيناريو لا يستطيع أن يقول كل شيء. الممثل قد يكون لديه أسئلة، وقد تكون عندي أسئلة بخصوص تلقيه لما هو مكتوب. الحالتان تقعان على نحو طبيعي. * كيف تحافظ على سريّة سيناريوهاتك؟ - هذا أمر صعب جدًّا في هذا العصر. * كوينتين تارانتينو كاد يلغي فيلمه المقبل بعدما تم نشر فحواه على الإنترنت.. - هذا صحيح. هذا ما أقصده. في هذا العصر بات من الصعب جدًا إبقاء ما هو شخصي شخصيا أو ما هو سري سريا. لكن أريد أن أضيف شيئًا لم أقله في معرض الحديث عن السيناريو والممثلين. أجلس مع كل ممثل على حدة لكي أتأكد من أن كل شيء واضح. والحقيقة أن بعض أسئلتهم لي رائعة. اكتشفت أن آن هاثاواي (بطلة الفيلم) لديها معرفة واهتمام كبيرين بخصوص كل ما هو علمي. لا تريد أن تظهر ذلك، لكنها بالفعل تعرف الكثير عن الفيزياء. بينما وجدت ماكونوهي أكثر انصرافًا صوب العلاقة الروحانية التي يمكن للمشاهد أن يستلهمها من الفيلم. كلاهما كان لديه أسئلة مثيرة، وكلاهما كان يتابع ما في بالي ويطرح عليّ ما لديه من تساؤلات. وجدت ذلك مثيرا جدًا للاهتمام. * الخوف من الماء * هذه الأسئلة هي التي في بال المشاهدين. أعتقد أنك تهدف إلى جعلهم قادرين على استبدال المتوقع من فيلم خيالي - علمي بأفكار أخرى. - شكرًا. * وهذا أيضًا موجود في شخصية باتمان مثلاً. كلنا شاهدنا السلسلة السابقة حين لعب جورج كلوني ومايكل كيتون الدور الرئيسي، لكن باتمان كما أعدت تقديمه أنت يختلف. - .. لكن هذا الاختلاف له علاقة بأنني لم أرد إعادة صنع فيلم، بل تقديمه من جديد. كلنا نعرف أن الأفلام السابقة وصلت إلى الجمهور. الرهان على كيفية تقديمها من جديد علما بأنه ما بين التسعينات عندما تم تقديم تلك الأفلام وسنة 2005 عندما أنجزت «باتمان يبدأ» مسافة زمنية قصيرة. لو أن الجمهور وجد نفسه أمام فيلم مشابه لما كرر الحضور. لسقط المشروع بأكمله. له أيضًا علاقة بأسلوب كل مخرج على حدة. أحب النظر إلى أفلام تيم بيرتون عمومًا وإلى «باتمان» كما أخرجه على وجه خاص، لكن ما أنجزه يتبع مفهومه الخاص وما أنجزه أنا يتبع مفهومي الخاص أيضًا. * بعض الصحف ذكرت أنك تخاف من الماء.. هل هناك سبب؟ - نعم. سبب مهم (يضحك). ذات مرّة تعرضت لحادثة وأنا أقوم بـ«السيرف» كادت تعطب ظهري. في الواقع كان الألم في كتفي اليمنى شديدًا لفترة طويلة ومن يومها وأنا أخشى البحر والأمواج. * لكن واحدًا من أفضل مشاهد «نجمي» هو ذلك الذي نرى فيه أمواجًا عالية كالجبال وهي تتقدّم صوب المركبة الفضائية. هل جودة هذا المشهد لها علاقة بمخاوفك؟ - (يضحك) لا بد.. كل الأفلام انعكاسات شخصية لأصحابها. * تكتب سيناريوهاتك مع أخيك جوناثان. كيف بدأ هذا التعاون؟ - في سنة 2000 كتب جوناثان قصّة قصيرة لم تنشر. هذه القصّة كانت الأساس لفيلم «ميمنتو» والتعاون انطلق من ذلك الحين. * كيف تعملان على مشاريعكما؟ - أحب العمل مع جوناثان لأنه عمل مرتاح. العمل مع أشخاص تعرفهم ويعرفونك عن كثب يمنحك الحرية ويجعلك قادرًا على الالتزام بمنهجك السينمائي ومن دون محاولة شرحه لعنصر آخر في كل مرة. جوناثان يعرف ما أريد ورغم ذلك على كل منا أن يثق بالآخر. تعلم أن زوجتي هي شريكتي في الإنتاج أيضا وما أقوله عن شقيقي أستطيع قوله عن عملي مع إيما (توماس). * الرهان * لماذا تركت مشروع العمل على «باتمان»؟ أقصد أن الكثير قيل عن أنك استوفيت رغبتك في هذه الثلاثية. لكن هل هذا هو السبب الأساسي؟ - نعم. هو بالفعل كذلك. ثلاثة أفلام من السلسلة كافية لكي تقرر أن تنزح عن المشروع وتبحث عن سواه. فيلم آخر من السلسلة قد يكون أكثر مما تستطيع أن تكترث له. * لكنك منتج منفذ للفيلم المقبل «باتمان ضد سوبرمان».. هل تستطيع الحديث عنه؟ - لا أعتقد. * هل كانت كتابة الفيلم ليجمع بين بطلين من «السوبر هيرو» صعبة؟ - في البداية كانت كذلك. دعني أوضح، في أي فيلم يقوم على طموح كهذا، سيمر وقت طويل من الكتابة تليها إعادة كتابة أكثر من مرّة إلى أن يجد صانعو الفيلم ما يبحثون عنه. ما يطمئون إليه. لذلك، من هذه الناحية كان البحث صعبًا. هناك عناصر في الحكاية وفي المشروع ككل لا أستطيع بحثها، لكنها ضرورية. كان لا بد من وجودها قبل أن نقول صرنا جاهزين. * ما هو الرهان الذي تقوم به، بينك وبين نفسك، كلما استعددت لإخراج فيلم جديد؟ - أراهن على أن أستطيع أن أخدم حبي للسينما والجمهور معًا. * بعض أفلامك، بل كل أفلامك في الحقيقة، تتطلب وعيًا إضافيًا من الجمهور. ألا تخشى ألا تصل رسالتك إليه؟ أن يشكل عدم قدرة البعض على فهم الفيلم بمثابة عائق يحول دون نجاح الفيلم؟ - طوال الوقت. في الواقع هي مخاطرة. لكني أعتقد أنه إذا كنت تستطيع أن تكسب الناس عاطفيًا حيال ما تعرضه، تستطيع أن تضمن رغبتهم في السير معك وصولاً إلى ما تريد من الفيلم أن يسرده أو يقوله. لا تريد للفيلم أن يكون لغزيًا تريد له أن يكون لغزًا مفهومًا أو أن يكون لغزًا يستطيع الجمهور الاشتراك به. * رغم ذلك هي مخاطرة.. - بالطبع. ما أستطيع أن أقوله في كيفية تجاوزها هو أن ما يجب أن يُثير الجمهور لا يمكن أن يكون شأنًا ثقافيًا حتى ولو أن الموضوع كان عميقًا وعلميًا أو يطرح مسائل فكرية. عليه أن يكون الاهتمام منبثقًا من الشخصية وهذه عليها أن تنطلق دائمًا من وضع روائي. تسرد الحكاية وتسردها جيّدًا وإذا فعلت تستطيع أن تتضمنها ما تريد.