بلبلٌ حزين يصدحُ بالبكاء على شجرة يقطين، ليس في أممِ الطير من يفقه سرّ الأنين في دندناته، اجتمعتْ أسرابُ البلابل وتحلّقت حوله ونثرت من حواصلها فتات الأسئلة: (علامَ الحزنُ أيها الرفيق؟ ولِمَ ينسكبُ الدمعُ مُراً بين ترانيمِ هذا الغناء)؟ رفع البلبلُ عنقه، ثم قال: (هلمّوا إليّ، سأحكي لكم أيها الصحبُ حكاية الريشة السمراء) أنصتت البلابل، وبدأ الشادي الباكي يروي قصته: (أتذكرون يا رفاق قبل أعوام ثلاثة، يوم أن أحرق الإنسانُ غابتنا، وتحولت المدينة التي بالجوار جحيماً، وكيف كان ضِعافُ الطير والحيوان والبشر والشجر يتساقطون بين ألسنة اللهب كالأغصان الجافة، حتى قضت النار على كل شيء). سكت البلبلُ قليلاً ثم أردف: قبل اندلاع الحرب، اعتدتُ المكوث قرب نافذة يبذرُ لي سيّدها الحبّ كل صباح، بينما أطربُه من الغناء أعذبه، كان شهماً مِقداماً مفتول الذراعين، رأيته يتجوّل فوق صهوة جواده حاملاً سلاحه وراء ظهره وكأنما هجس باشتعال صراع وشيك، وحين حلّ وتصاعدت نيرانه، فررتُ إلى الفضاء أطلبُ النجاة وسقطت من صدري الجريح ريشةٌ سمراء اللون، لم ترمّدها الأرض المحترقة، حملها الدخان إلى البعيد، إلى حدود البحر الضّجِر الذي سئم ملوحته، غموضه وشيئاً من عنفوانه. كانت الأمواج تتنهّد بحنو وهي تسير بها نحو العدم، والأنجمُ الكثيرة في السماء تراقبها بينما هي تعلو وتنخفض في خضم الماء، وكانت الريحُ قويةً بما يكفي لتمتطي الريشة قدراً آخر يشهد بأن الحياة هي آخر احتمالات الموت العابثة. نجت من غدرِ اللجة وخارت قواها عند قدمَي فارس جريح، بجانبه خيل واهن لم يثِرْ صهيله سكون الليل، وعند اكتمال القمر عوى ذئبٌ خلف التل، وشتْ رائحة الدماء لأنفه بوجود فريسته الشهية في الجوار. لم يكن ذلك الفارسُ إلا صاحب الحَبّ والنافذة، لفظته الحربُ إلى ساحل الذين يموتون بداء الهزيمة، ثم تركته وحيداً يبكي حاله البائس، يبكي وطناَ هناك يحتضِر، مدينة تحترق، وبيتاً ترمّد كل شبر فيه. التقط الريشة ووضعها بين راحتيه، لم يعلم بأنّ بلبله الصغير الذي ينتظر حبّه الصباحي قرب النافذة قد أصبح مثله جريحاً شريداً بلا مأوى. تأمل جراحه النازفة، كان أشرف من أن يموت مقطّع الأجزاء بين أرض جرداء وأحشاء ذئب جائع، وقبل أن يلفظ أنفاسه المتبقية قبض بكفه على الريشة بأقوى ما يستطيع كي تصبح أصابعه مثواها الأخير. وتلكمُ يا صحبُ حكاية الريشة السمراء. توقف البلبل عن الكلام، بكى، وبكت البلابل أجمعين.