كيف يتصل الحاكم بالمحكومين؟ رأينا مثلا على ذلك في الاجتماعات التى استمرت ثلاثة أيام الأسبوع الماضي بين المهندس إبراهيم محلب وممثلين عن قوى وأحزاب سياسية سواء كان لها وجود على أرض الواقع وإن كان محدودا أو ليس لها وجود. وهذه الاجتماعات هي مثل طريف لما يحاول النظام السياسي المصري أداءه تلبية لوظيفة هامة في كل النظم السياسية، وهي التي يعرفها دارسو السياسة تحت مسمى "التواصل السياسي"، ويصر المشتغلون بالسياسة في بلادنا على أن يطلقوا عليها "الاتصال السياسي" وللفارق بين التعبيرين دلالات هامة سيحاول هذا المقال توضيحها. وكما هو معروف لدى القارىء، انتهى هذا الحوار المجتمعي بنتيجة كانت معروفة مقدما، ولكن شاء المتفائلون من السياسيين الذين شاركوا في هذه اللقاءات أن يتصوروا، بدون أي دليل يوحي بذلك، أن ما سينشغلون به مع رئيس الوزراء سيكون بالفعل حوارا ينتهي وقد تخلى كل طرف عن بعض مواقفه السابقة بحيث يخرجون وكلهم فائزون، حتى وإن لم يحصل كل منهم، بما في ذلك رئيس الوزراء، على كل ما كان يريد في البداية. *** لم يكن هناك في الحقيقة ما يساند هذا التوقع من جانب هؤلاء المتفائلين، فلم تكن هناك سابقة في تجارب ما يسمى بالحوار المجتمعي لم تخرج فيها الحكومة بغير ما كانت عازمة على إنفاذه من قبل بداية الحوار، اللهم ربما في مداولاتها مع رجال الأعمال، والذين يملكون أدوات ضغط على الحكومة لا تملكها القوى الاجتماعية الأخرى، يمكن لرجال الأعمال أن يعزفوا عن ضخ إستثمارات جديدة في إقتصاد رأسمالي، وهو صورة من الإضراب عن العمل، ولكن لايملك قادة الأحزاب سلاحا مماثلا في فعاليته، بالطبع هم يمكن أن يهددوا بالإضراب، في هذه الحالة يأخذ إضرابهم صورة مقاطعة الإنتخابات، ولكنهم يعرفون أن مثل هذا التهديد ليست له أي مصداقية، فالمواطنون يذهبون إلى الإنتخابات ليس بالضرورة إستجابة لدعوات الأحزاب السياسية، ولكن بالنسبة لكثير منهم تأييدا لمرشح يتمتع بالنفوذ في دائرته لما يملك فيها من عصبية مساندة، أو تحت إغراء ما ينفقه من أموال، وحتي إذا لم تذهب أغلبية الناخبين لصناديق الإقتراع، فلا يوجد في قوانين الإنتخابات في مصر ما يبطل الإنتخابات بسبب ضآلة نسبة من أدلوا بأصواتهم فيها، وربما تستريح الحكومة لقلة أعداد الناخبين، فسيضفي ذلك قدرا أكبر من الهدوء على أجواء الإنتخابات، وهو ما تتمناه الحكومة. ومع ذلك هناك جديد في كيفية أداء حكومة الرئيس السيسي لوظيفة الاتصال السياسي هذه يميزها عن حكومات مصر السابقة في عهد كل رؤسائها السابقين. طبعا هناك سمات مشتركة، وهي الطابع السلطوي لطريقة أداء هذه الوظيفة ، فهي إتصال سياسي أحادي الجانب، هناك من يتصل، أي من يبلغ رسالة معينة، وهو صاحب السلطة، ولكنه لا يتواصل، أي لا يتفاعل مع من يتصل به ولا يتلقي منه أي رسالة، فهو يتوقع منه التسليم بما يبلغه، ولا ينتظر من المتلقي رسالة أخرى سوى السمع و الطاعة، وهي رسالة ذات محتوى ثابت لا يتغير لأنه ليس هناك ما يدعو لتغيير المحتوى فليس من المتوقع أن يطرح المتلقي اعتراضات تدعو إلى بذل المرسل مجهودا للإقناع. الاقتناع ليس مطلوبا، الطاعة فقط هي مايسمح به المرسل. *** ومع وجود هذه القسمات المشتركة بين أداء وظيفة الاتصال السياسي في السنة الأولى للرئيس السيسي وعلى عهد الرؤساء السابقين، إلا أن هناك خلافات هامة أيضا بين هذه العهود الأربع. هناك خلاف أولا في مدى كثافة الإتصال وخصوصا من جانب رئيس الدولة، وفي أداة الاتصال، وبطبيعة الحال هناك خلاف أكبر في مضمون الاتصال. لاشك أن الاتصال كان أكثر كثافة بكثير في عهد الرئيس جمال عبد الناصر وأقل إلى حد ما على عهد الرئيس السادات، ولكنه تضاءل كثيرا على عهد الرئيس حسنى مبارك، وانخفض بدرجة أكبر مع الرئيس عبد الفتاح السيسي. ويمكن القول أن كلا من عبد الناصر والسادات مع الخلاف بينهما كانا من قادة ثورة تمردت على نظام قديم، ومع أنهما مثل من تبعاهما كانا من ضباط الجيش إلا أنهما خرجا عن نمط موظفي الدولة المصرية بينما جاء كل من الرئيسين مبارك والسيسي من رحم جهاز الدولة المصرية وتتطبعا بطابعه. ولذلك اهتم كل من عبد الناصر والسادات بمخاطبة الشعب، وتلمسا المناسبات للحديث للمواطنين، وبالخروج على صيغة الخطاب المعد لهما باللغة الفصحى للتبسط مع المواطنين باللغة العامية. تعددت المناسبات الرسمية التي كان عبد الناصر يخطب فيها من عيد الثورة في 23 يوليو إلى عيد خروج الملك في 26 يوليو إلى عيد النصر في بورسعيد في 23 ديسمبر إلى عيد العمال في أول مايو وغير ذلك من مناسبات رسمية أو اقتضتها الظروف، وكان خطاب عبد الناصر طويلا يستغرق أحيانا ثلاث ساعات، وكان لقاؤه بالمواطنين مباشرا في ميدان عابدين أو ميدان المنشية بالإسكندرية، وكان الذى يغلب على خطابه هو التعبئة، حث المواطنين على النضال ضد الإستعمار أو لتحقيق الوحدة العربية أو دفع التحول الإشتراكي. وكان لخطاب السادات مناسبته الرسمية، فهو يخطب في ذكرى ما سماه بثورة التصحيح في 15 مايو، وفي ذكرى حرب أكتوبر وكذلك في إفتتاح الدورة السنوية لمجلس الشعب وفي أول مايو، ولكن ندرت في عهده اللقاءات الجماهيرية الواسعة، كما ابتكر صيغة الحوار المطول في عيد ميلاده مع إحدى مذيعات التلفزيون. وكانت خطاباته طويلة أيضا، ولكن لم تصل في مدتها الزمنية لما كانت عليه خطابات عبد الناصر. وقد تنوعت الرسالة الأساسية للخطاب من التهدئة إلى التهديد والوعيد، واستخدم تعبيرات مثل فرم المعارضين والتأكيد على أن الديمقراطية لها أنياب. تغير الأمر كثيرا مع كل من الرئيسين مبارك والسيسي. قلت كثيرا مرات التواصل مع المواطنين، وأصبح قاصرا على مناسبات رسمية محدودة، هي في حالة الرئيس مبارك خطاب افتتاح مجلس الشعب في نوفمبر وخطاب عيد العمال الذى يجرى الإحتفال به في التاريخ الذى تحدده أجهزة الأمن، وليس في أول مايو بالتحديد، وهو خطاب معد سلفا، ولكن يخرج عنه الرئيس خصوصا في عيد العمال ليتحدث بالعامية، ولم يتردد الرئيس مبارك في الجمع بين نصح المواطنين والسخرية منهم، لأنهم ينجبون كثيرا من النسل، ويحملون الدولة كثيرا من الأعباء. وكانت خطاباته قصيرة نسبيا بالمقارنة بسابقيه، وتلقى في أماكن مغلقة، فقد أخذ حذره من الأماكن المفتوحة، فقد أغتيل سلفه في مكان عام حتي وإذ كان عند اغتياله محاطا بجنود الجيش. أما الرئيس السيسي فلا يملك المراقب لمناسبات خطابه للمواطنين إلا أن يلاحظ أنها محدودة للغاية تقتصر على خطاب رسمي معد سلفا باللغة العربية الفصحى يجري إلقاءه في مكان مغلق أو من خلال استديو في قصر الرئاسة، وذلك باستثناء خطاب تنصيبه رئيسا وكان في قصر القبة أمام من دُعوا لهذا الاحتفال. وإذا ما خرج الرئيس عنه فبعبارات قليلة باللغة العامية لا تتجاوز جملا محدودة. والرسالة الأساسية لهذا الخطاب هي الصمود في وجه التهديدات التي تأتى من الإرهابيين والوعد بأن مصر ستستعيد عظمتها. *** وتتضح الطبيعة الفريدة لأسلوب أداء وظيفة الإتصال هذه بما هو الحال في دول إستقرت ديمقراطيتها. رئيس الوزراء البريطاني يتواصل مع شعبه أسبوعيا تقريبا من خلال جلسات مجلس العموم ببيانات يلقيها أو يرد على إدعاءات المعارضة بحجج يسعى من خلالها لإقناع الرأى العام البريطاني بحكمة سياساته. والرئيس الفرنسي هولاند يلقي خطابات، في مناسبات رسمية، ولكنه يلتمس الظروف ليتحدث للشعب الفرنسي ليس بالضرورة من خلال الخطاب الرسمي، ولكن من خلال حوار تليفزيوني يجمعه ببعض أهم المذيعين في فرنسا يطرحون عليه أسئلة مما يشغل الرأى العام أو في مؤتمرات صحفية يوجه له الصحفيون فيها أسئلة محرجة، وهو لايغتنم هذه الفرصة للتعبئة أو التهديد والوعيد أو التعهد بمستقبل وردي، ولكنه يصارح شعبه بحقائق الوضع العام، ويسعى لإقناع محاوريه بما يقول ويسمح لهم بالاختلاف معه. نفس الأمر بالنسبة للرئيس أوباما الذى يتوجه للمواطنين من خلال حديث إذاعي أسبوعي فضلا عن المؤتمرات الصحفية التى يواجه فيها سيلا من الأسئلة من صحفيين يرددون على مسامعه ما يقوله معارضوه، وهو يسعي جاهدا لإقناعهم بالحجة بسلامة سياساته. ولاشك أن هذا السياق الذى يجرى فيه هذا الحوار هو الذي يجعل منه تواصلا يستفيد منه الحاكم والمحكومون، ويظهر أثره في تغير مواقف هؤلاء القادة على ضوء ما تكشفه لهم هذه اللقاءات. ليت حكومتنا تتخلى عن أسلوبها المعهود المسمى بالحوار المجتمعي الذي هو في حقيقة الأمر إتصال سياسي من جانب واحد، وتسعي بدلا من ذلك إلى تواصل جاد مع المواطنين. تسمع وتتعلم منهم، وتسلم بأن لهم حجج مقنعة إن لم تجد هي من الحجج ما تقبله عقولهم.