استثمرت المنظمات اليسارية وجمعيات الدفاع عن الحقوق المدنية في حركة الاحتجاج التي شهدتها مدينة فيرغسون في ولاية ميسوري الأميركية عقب حادثة مقتل مايكل براون الشاب الأميركي من أصول أفريقية برصاص أطلقه رجل شرطة أبيض. وسجل الاستثمار في التحرك المتواصل منذ آب (أغسطس) الماضي نقاطاً تحسب لليسار الأميركي بإثارته جدلاً حاداً في وسائل الإعلام تناول عنف رجال الشرطة ومدى شرعية هذا العنف، كما نجحت الاحتجاجات بدفع السلطات الفيديرالية لإجراء تحقيقات في ظروف مقتل الشاب الأسود بينت نتائجها مظاهر وسلوكيات عنصرية ضد الأقليات في عدد من دوائر الشرطة في فيرغسون. النتائج الأولى لتحقيقات السلطات كانت إجراء مناقلات لعدد من الأفراد والضباط في دائرة الشرطة في فيرغسون واستقالة كل من عمدة المدينة والشرطي دارين ويلسون قاتل الشاب الأسود الأعزل. لم يكتمل نصر المحتجين، وجلهم من الأميركيين الأفارقة، إذ لم توجه لجان التحقيق المحلية والفيديرالية أي اتهامات جرمية ضد الشرطي الأبيض وهو ما أثار اضطرابات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين في فيرغسون وانتقال الاحتجاجات إلى ولايات أميركية أخرى وتصدر الأخبار عن حوادث عنف الشرطة، خصوصاً مع الأميركيين الأفارقة مساحات إعلامية واسعة على شاشات ابرز محطات التلفزة الأميركية. وانتشر عدد كبير من الأشرطة المصورة تظهر عدوانية رجال الشرطة واستخدامهم عنفاً غير مبرر ضد مواطنين عزل يشتبه بتورطهم في أعمال جرمية. وتظهر دراسة إحصائية موسعة أجرتها صحيفة «واشنطن بوست «بالتعاون مع مركز أبحاث جامعي ونشرتها قبل أيام أن من بين آلاف حوادث إطلاق النار التي شهدتها الولايات المتحدة خلال السنوات العشر الماضية، وكان رجال الشرطة طرفاً فيها، لم توجه اتهامات جرمية سوى إلى 54 شرطياً برأ القضاة معظمهم خلال المحاكمة فيما عاد البعض منهم إلى وظيفته نفسها في دوائر الشرطة. وتلاحظ الدراسة أن تحرك القضاء في تلك الحوادث الـ54 جاء إما نتيجة شكاوى ومعلومات من أفراد الشرطة أنفسهم وإما انتشار شريط مصور للحادثة يظهر بوضوح مسؤولية رجال الشرطة وفي بعض الحالات تحرك القضاة لأن المشتبه بهم أصابتهم نيران الشرطة من الخلف. تشير الصحيفة إلى رفض القضاة توجيه اتهامات لرجال شرطة تسببوا بمقتل آلاف الأشخاص المشبوهين وغير المشبوهين من دون أن يتأكد أحد ما إذا كان استخدام العنف مبرراً ويندرج في إطار صلاحيات رجال الشرطة وحقهم الدستوري بالدفاع عن النفس وحماية المواطنين الأميركيين، أم أن عدوانية رجال الشرطة، وأحياناً عنصريتهم تجاه الأقليات وخصوصاً ذوي الأصول الأفريقية، هي التي تسببت بوقوع هذا العدد الكبير من الضحايا. يعتبر ما نشرته «واشنطن بوست» غيضاً من فيض ما تبثه وسائل الإعلام الأميركية من آراء ومناقشات حول ضرورة إجراء إصلاحات في مؤسسة الشرطة الأميركية تضع قيوداً على حقها في استخدام العنف وتدخل قدر كاف من الشفافية في إدارة هذا الجهاز المعني بحماية المواطنين وملكياتهم وتخضعه لمعايير رقابية تضيق من صلاحيات رجل الشرطة في استخدام السلاح وترفع عنه الحصانات التي تحميه من المحاكمة. وتمنح القوانين الأميركية الحالية مؤسسة الشرطة صلاحيات حصانات واسعة جداً تجعلها عصية حتى على مكتب التحقيقات الفيديرالي (أف بي آي) الذي لا يمكنه الوصول إلى تحقيقاتها وبيانات معلوماتها حول القضايا المتعلقة بالملاحقات الجنائية من دون موافقة مسبقة من دوائر الشرطة. الجدل المتصاعد حول أداء الشرطة الأميركية واستخدام العنف ضد المواطنين العزل يظهر بوضوح أكبر الانقسامات العنصرية والاثنية التي يقوم عليها المجتمع الأميركي. ولا يتردد الناشطون ضد عنف الشرطة في القول إن القوانين التي تنظم عمل هذه المؤسسة الأمنية هي امتداد لفترة العبودية التي مارسها البيض ضد الأفارقة في تاريخ تكوين الولايات المتحدة الأميركية. ويرى هؤلاء أن العنصرية ضد السود ما زالت تتحكم بآلية عمل مؤسسة الشرطة الأميركية التي يغلب على عناصرها وضباطها اللون الأبيض حتى في التجمعات التي يتشكل غالبية سكانها من الأقليات: فيرغسون على سبيل المثال، حيث يشكل ذوو الأصول الأفريقية أكثر من ستين في المئة من سكان المدينة بينما يشكل البيض السواد الأعظم من رجال الشرطة فيها. وبهدف ضمان الشفافية في تحديد مسؤولية رجال الشرطة وعدم تجاوز القوانين التي تخولهم احتكار استخدام العنف لحفظ الأمن وحماية المجتمع من الخارجين عن القانون تكثر المطالبات بوضع كاميرا مع كل رجل شرطة وإن كانت الدوريات مزودة حالياً بكاميرات مثبتة على سيارات الشرطة. في حين طور ناشطون تطبيقاً جديداً يدعى cop watch يوفر لمستخدميه إمكانية تصوير الفيديو ورفعه مباشرة على موقع يوتيوب لفضح أفراد الشرطة الذين يسيئون التصرف ويساعد بالإمساك بهم وتقديم دلائل موثقة من أجل محاكمتهم. في المقابل يتخوف كثير من الأميركيين، خصوصاً الجمهوريين، من أن تكبيل أيدي رجال الشرطة باستخدام السلاح سيعرض حياتهم لمزيد من الأخطار ويهدد أمن المجتمع الديموقراطي في الولايات المتحدة حيث يقر الدستور حق المواطن الأميركي باقتناء السلاح للدفاع عن النفس. ويرى هؤلاء أن احتكار الشرطة لاستخدام السلاح وعدم تقييد هذه الوظيفة بشروط ومبررات إضافية سيساهم في نشر واسع للجرائم الفردية والمنظمة في المجتمع. لا شك أن الحملة المناهضة لعنف الشرطة في الولايات المتحدة ستأتي ثمارها. وآليات المراقبة القضائية والإعلامية لوظيفة الشرطة بدأت تتبلور بوضوح. والأرجح أن تطور وسائل الإعلام والتقدم التقني الهائل في وسائل التصوير سيساعدان في إيجاد انسب الآليات لوضع قنوات الرقابة اللازمة على سلوكيات رجال الشرطة وحماية مسار التغيير الديموقراطي الذي تشهده الثقافة الأميركية.