إن اتخاذ القرار وإصدار الأحكام وإنفاذ التصرفات تقوم على أساس ما يتوافر لدينا من معلومات أو بيانات أو أنباء، وبقدر مصداقية مصادرها نصل إلى نتائج سليمة وتقييم عادل وإنجازات موفقة. وبذلك يمكن حماية المجتمع من اتخاذ أي قرارات مندفعة أو متسرعة ردا على تلك الأخبار دون تبين لدقة مصادرها، حتى لا تقع أخطاء أو مظالم لا سيما في وقت الفتن واحتدام الصراعات، حيث تنشط الدعاية والدعاية المضادة وتكثر الإِثارة وتفشو الشائعات، وتشتد الحاجة لتوثيق الخبر في ميدان الصحافة والقنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث يشيع الخبر في الآفاق كالنار في الهشيم. والمستغرب أن بعض الناس يسمع بلسانه لا بأذنه، وهذا حال من يسمع ويرسل من غير تأن ولا تثبت كأنها ما مرت على أذنيه، وهو ما أنكره القرآن الكريم على أقوام فقال الله - عز وجل - فيهم في تصوير معبر : { إذ تلقونه بألسنتكم } .. النور : 15. وفي الإسلام منهج واضح المعالم في التعامل مع الأخبار يؤكد على ضرورة التبين مما نتلقاه من أنباء، يبدو جليا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } .. الحجرات: 6. إن في هذه الآية بيانا لمنهج التعامل مع الأخبار، كيف نتلقاها، وكيف نتصرف عند سماعها، وفيها الأمر بالتأني وعدم التسرع بالعمل بمقتضى ما يتلقى من أخبار حتى يتم التثبت من صحتها، وإلا حصدنا الندم للاستعجال في اتخاذ المواقف، وللتسرع في ردود الفعل. وسبب نزول الآية : أن النبي (صلى الله عليه وسلم) بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق لجمع الزكاة، لكن الوليد تأخر عنهم، ورجع إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وادعى كذبا أنهم قد منعوا الصدقة. فنزلت الآية لتقدم منهجا في التعامل مع الخبر ، والـتأكد من صحته، وهذا يعني في الأداء الرسمي وجوب التأكد من صحة التقارير الواردة إذا دلت القرائن على عوارها. روي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئاً، فقال له عمر : إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: (هماز مشاء بنميم) وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبداً. لقد خص الفاسق بالتبين من صحة خبره لأنه مظنة الكذب، لكن التبين يشمل الجاهل أو الواهم الذي يجهل صحة النبأ، ثم ينقله كنبأ صادق، فهو ضرب من ضروب الفسق المعرفي، وكذلك المتعصب لمذهبه أو حزبه. وليس الغرض إشاعة الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما ينقله أفرادها من أنباء، فالأصل في المسلم أن يكون موضع الثقة، لكن لابد من أخذ الحيطة والحذر مع من تفوح منه رائحة فسق أخلاقي أو إعلامي. ليس كل ما يقال صحيحا وليس كل ما نسمعه صوابا، لذلك قد نكون شركاء في الكذب إذا رددنا أو نشرنا ما تلقيناه دون تثبت لذلك قال النبي (صلى الله عليه وسلم): ( بئس مطية الرجل زعموا ) رواه أبو داود، وقال (صلى الله عليه وسلم) : ( كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع ) رواه مسلم، ولا تنخدع بعبارة ( انشر تؤجر ) التي تكثر في شبكات التواصل الاجتماعي قبل التأكد من الصحة، فالمؤمن (وقاف حتى يتبين ) كما يقول الحسن البصري رحمه الله. إن التبين من الخبر يشمل كلّ أسلوب يؤدّي إلى حالة الوضوح عند الإنسان، بشهادة حواسه أو تفكيره الموضوعي قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36) سورة الإسراء. أو من خلال التحقق منها لدى المؤسسات العلمية أو الرسمية أو شهادة الخبراء كما قال عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وهنا يأتي دور المؤسّسات العلمية ومراكز للدراسات والأبحاث التي توثق المعلومات وتكشف عن حقائقها. «فَتَبَيَّنُوا» رسالة لنا بألا ننساق وراء كلّ دعاية وشائعة أو خبر أو أقاويل وأن نواجه الواقعة قبل وقوعها، أي نقوم بإجراءات وقائية بالتحقق حتى لا نقع في جهالة وندامة {فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. أستاذ مشارك بجامعة الدمام