×
محافظة المنطقة الشرقية

ملتقى «أمراض العناية المركزة»: «الخمج» سبب 30 % من الوفيات

صورة الخبر

< سأحاول في هذا التعقيب أن أحدد الأفكار الرئيسة التي وجهت أربع أوراق بحثية، وكذلك ما نشأ عنها من أفكار. وتعليقي عليها. إن إحدى الأفكار الرئيسة التي ساهمت فيها ورقتا الباحثين: المعيقل وبلعابد هي المقاربة التحليلية لمقدمات عدد من الرواد. نَحَتْ ورقة الدكتور المعيقل نحو ما تمثله المقدمة للرائد ذاته، وما يعكسه فيها عن ذاته أو عن موقفه من شخص آخر. بينما نحت ورقة الدكتور بلعابد نحو استشراف المشروع النقدي لكاتب المقدمة من المقدمة التي كتبها. ومن وجهة النظر التي تبنياها من الصعب أن نضيف إلى ما حللاه. لكن ذلك يكون فقط في حال أن الإطار العام للملتقى مجرد مقاربات لمقدمات عدد من الرواد لكتبهم أو كتب غيرهم، من دون أن نضع الورقتين في الإطار العام لموضوع الملتقى. اتفقت الورقتان على توصيف المقدمات بـخطاب المقدمات. نحن نعرف الآن أن الخطاب ينشأ في ظروف اجتماعية وثقافية واقتصادية معينة، وإذا كان كذلك فيمكن أن يقارب الخطاب بقراءة الظروف التي أحاطت بتدوينه. والأسباب التي جعلته ينشأ، وبذلك يتحول الخطاب إلى دلالات، والأحداث التي ولدته إلى معانٍ، والشخصيات إلى ريادة. هذا مجرد اقتراح يتعلق بالأسئلة التي كان يمكن أن تفضي إلى دراسة خطاب المقدمات: ما الآفاق الاجتماعية والثقافية التي ولدت عنها المقدمات؟ ما العمليات الاجتماعية والثقافية التي كونت خطاب المقدمات؟ لماذا انتعشت المقدمات إلى حد أنها شكلت خطاباً بمعنى الخطاب الذي يشمل ما يتكون منه؟ إنني، أفكر في أن خطاب المقدمات في هذه المرحلة كنظير للشهد الذي ينتجه النحل. ينتج النحل الشهد، وهو الذي يختزنه، وهو الذي يستهلكه، وحينما تستهلك نحلة مفردة شهداً فإنها لا تستهلك فقط الشهد الذي أنتجته وحدها، والورقتان نظرت إلى خطاب المقدمات نظير اليعسوب الذي يستهلك الشهد، وهو لا ينتج أياً منه على الإطلاق. من وجهة النظر التي أتبناها، وفيما لو حللنا مقدمة كتاب «نفثات من أقلام الشباب الحجازي»، من زاوية الخطاب فإن أسئلة من نوع: كيف نظر الصبان إلى نفسه في اللحظة التاريخية التي بدأ فيها مجموعة من الشباب تنفث؟ كيف فقد الصبان طابع المجتمع الأليف؟ كيف فقدت النصوص تشابهها مع ما يعرفه مع النصوص؟ بمعاونة هذه الأسئلة يمكن أن نتوصل إلى أن الخطاب الذي يقدم له الصبان يتضمن بشكل ملموس حال مصدور لا بد له من أن ينفث أفكاراً، وهو نفث يطابق تحرر الشباب الذاتي، وتحطيم أولئك الشباب سجنهم الرهيب؛ لكي يجعلوا من الحياة أرحب وأوسع، أو على الأقل أن يتجاوز أولئك الشباب ضيق سجن من تستغرقه قيوده. لقد تنبه الصبان في مقدمته للكتاب إلى روح أولئك الشباب الجديدة، وأبدى قلقه منها في المقدمة التي كتبها، لا أحد يعرف بالتحديد؛ لكن التأويل قد يبين هل هو الخوف على هؤلاء الشباب أو الخوف منهم، وعلى أي حال فقد طالبهم الصبان بالاعتدال، والاستفادة من الشيوخ والتعاون معهم، وهو ما لم يكن في بال أولئك الشباب، إذ يفرق خطاب الشباب بين جيل ينشأ بروح متقدة ويرنو إلى الغد، ويعمل من أجل المستقبل، وبين جيل شيوخ انتهى، أو هو على وشك أن ينتهي. هناك نقاط مضيئة وذكية في الورقتين كان يمكن أن تعمق أكثر لإضاءتها معنى الريادة كحديث الدكتور المعيقل عن معجم العواد اللغوي وإحالته إلى الحرية والحداثة والتحديث، وحديث الدكتور بلعابد عن القطيعة التي تمثلها المقدمات مع التأليف في مفهومه القديم، غير أن هذه الأفكار المضيئة لمفهوم الرواد، غاب في خضم منحى الورقتين الوصفي. إن حديث الدكتور بلعابد عن «غربال حجازي»، وهو يتحدث عن مرصاد الفلالي كان يمكن أن يكون مدخلاً لخطاب هذه المقدمة؛ فالفحص التاريخي لتكون النقد الراصد يكشف أن السبب الرئيس للترصّد ارتباط النقد ارتباطاً وثيقاً بقيم آيديولوجية ينقلها الأدب، ويحفظها النقد. في بُعد آخر يخرج قارئ الورقتين أنهما تتحدثان عن الجيل أكثر من حديثهما عن الريادة. صحيح – كما يقول كارل بوبر - أن ليس ثمة من داع أن تكون دقة المفهوم أعلى مما تحتاج إليه المشكلة، لكن إذا كان مفهوم الجيل مفيداً في توضيح التجارب المختلفة بين الأجيال، فإنه غير مفيد في توضيح الريادة المتجاوزة مفهوم الأجيال؛ فللريادة دور اجتماعي تنويري يؤخذ من جذر الريادة اللغوي؛ فرائد القوم هو من يتقدمهم لينير لهم الطريق. للريادة دور تكويني وحقلي معرفي أو إبداعي؛ فالرائد -كما يفهم من معناه اللغوي- هو من يسبق غيره أو من يهيئ السبل له. أهملت ورقة الأستاذ عثمان مفهوم الريادة حين تبنت مفهوم النخبة. ترتب على النخبة تراتبية تجعل من الريادة ما ليس منها؛ أعني أن يكون الرواد ناطقين باسم حقول معرفية رفيعة في المجتمع. ومن يقرأ ورقة الأستاذ عثمان يخرج بانطباع بأن الأسر التي ذكرها لا تتمايز عن الجمهور، إنما تمارس صوراً من صور السلطة، وأكثر من ذلك الانتقاء والاصطفاء الرسمي. تحترف بعض الأسر الثقافة والكتابة، وتقوم وظيفتها على إنتاج الخطابات الضامنة لهوية الجماعة والقيم المركزية السائدة فيها، وبثها في الزمان والمكان. أسر تنتمي إلى تاريخ الثقافة الإسلامية التي لم تعدم على مر تاريخها من أسر تحترف المعرفة، وتوضحها وتنظمها وتنشرها، وتضع القواعد وتسن السنن؛ حتى لا يشذ أي خطاب عما تعتبره مصلحة المجتمع العامة. إنني أذهب من وجهة النظر التي أتبناها إلى أن هذه الأسر شكلت سلطة، ونتج من إكراهاتها للآخرين خطابات زعمت أنها هي وحدها الخطابات الصادقة، وأن هذه الأسر وحدها هي التي تمتلك الحقيقة. إنني أفكر: لماذا توارثت هذه الأسر العلم الشرعي؟ لأن الأب يعلم الابن أكثر من اهتمامه بتعليم الآخرين. يشبه هؤلاء بعض أسر غامد المتعلمة، ولقد أدركت بعض أبناء هذه الأسر وحدثني أن أباه لم يكن يعلم الكتابة أبناء القرى عمداً لكي يحتكرها لأبنائه. من هذه الزاوية: الكتابة سلطة. وحين تحتكرها تلك الأسر فهي تحتكر السلطة؛ لذلك فإن أهم ما تقوم به الريادة هو تفكيك سلطة الأسر العلمية؛ حين تتبنى نشر التعليم ليصبح بإمكان الناس أن يقرأوا ويكتبوا. ومن هذا المنظور لا يمكنني فصل الريادة عن التنوير الاجتماعي والثقافي. حين كتب العواد «خواطر مصرحة» اهتم بالناس كلهم، وطالب بتعليمهم؛ لأنه يعرف أن الإنسان يولد وهو ذو وضع اجتماعي، لكنه يصير إلى وضع اجتماعي آخر حين يتعلم. لذلك شهد المجتمع بسبب ديموقراطية التعليم بروز الوضع الاجتماعي للموهوب من عامة الناس مكان الوضع الاجتماعي الناشئ عن المال أو الجاه أو الحسب أو النسب، كما في الأسر التي تحدث عنها الأستاذ عثمان؛ ذلك هو تكافؤ الفرص في التعليم بين الجميع، وهو ما يعني أن الناس أجمعين أصبحوا أحراراً في أن ينمّوا مواهبهم ويطوّروها، وما زالت هذه الفكرة الثمينة شائعة في التعليم إلى اليوم. تذكرنا ورقة الدكتور السويلم بالنقد العلمي، ويؤكد فيها انحيازه وإيمانه بأن النقد لا يمكن أن يكون موضوعياً إلا حينما يأخذ طابع العلم. هذا الانحياز إلى العلمية والموضوعية يجعل منه معياراً يحاكم بها رواد النقد، ويتوصل إلى أنهم يحلون الانطباعية محل الصرامة العلمية، ومحل النقد التحليلي العميق، وأنهم ذواقون آنيون لا يهتمون بأدبية النص. قد تكون هذه الاستنتاجات صحيحة؛ لكن ما تجاهلته الورقة هو أن النقاد الذين تناولهم لم يثيروا من المسائل إلا بالقدر الذي يمكنهم من حلها؛ فالعقل لا يعرف إلا ما تعلم، أي أن عتادهم المفاهيمي لازم لطرح السؤال الذي طرحوه في تلك المرحلة التاريخية، وليس من الحكمة أن تحاكمهم الورقة؛ استناداً إلى مرحلة تاريخية توفرت فيها مصادر المعرفة النقدية. وعلى أي حال سأتجاوز الجدل الذي دار -ومازال يدور- حول مفهوم الموضوعية، ليس فقط في العلوم الإنسانية، إنما في العلوم الطبيعية لأركز على أن ما سماه «الضجر من الصرامة العلمية»، والذوقية والانطباعية هي من سمات عقل النهضة؛ وهو العقل الذي لا نجد له مكاناً إلا في المراحل التاريخية التي تقدم من الوعود ما يفوق قدرتها على أن تساعد روادها على أن يفوا بوعودهم. قد يساعد تضمّن الورقة أن مرجعية الرواد التراثية ضعيفة. أقول قد يسهم هذا الحكم الذي توصلت إليه الورقة في بيان عقل النهضة؛ فهو العقل الذي يسقط الرهبة عن القدماء، ويتخلص من عقدة الدونية، ويرى أن بإمكانه أن يبني مجتمعاً وحضارة؛ لأنه لا يقل عن العقول القديمة. أخيراً تقدير ومحبة لهؤلاء الأصدقاء الذين أتاحوا لي المجال للقول: إن مفهوم الريادة واستخدامه وتفسيراته متعددة، وأن مفهوم الرائد مفهوم مرن ومفتوح أمام التعريف وإعادة التعريف والمراجعة، وأنه مفهوم قد يخضع للتطويع في سياقات ثقافية بينها اختلافات واسعة.