تتصاعد موجة التحاق مسلمين بريطانيين، ولدوا وشبوا بثقافة إنجليزية، بالتنظيم الإرهابي داعش (تطور سريعًا إلى كيان كولونيالي استيطاني توسعي). الظاهرة تطورت من تبني شباب مراهقين أو مغرّبين عن المجتمع (كثير منهم في السجون) فكرًا تدميريًا يتلقى إلهامه من «القاعدة» إلى أساليب جديدة كالتحاق الفتيات والشباب من أسر ميسورة الحال بـ«داعش». وضُبطت أسرة بريطانية رأسها المدبر الأم، اصطحبت أفرادها وابن أخيها (وطفلين دون السادسة) «للهجرة» (أحد التعبيرات التي سرقوها من سنوات فجر الإسلام) إلى «الدولة الإسلامية» المزعومة. واختلفت أجندة ما يسمونه «الجهاد» اليوم عن إرهاب روجت له «القاعدة» أمس. إرهاب اليوم هجرة جماعية استيطانية من «العالم القديم» إلى عالم جديد، كيان توسعي يستوطن أرضًا سلبها بمؤسسات القوم (يستعبد أهلهم أو يستبيح نساءهم متعة أو بيعًا كجوارٍ) تحت راية «الخليفة» البغدادي. دلائل على تحول «داعش» إلى «cult» (تعريف ناقص لـ«عبادة» في المعاجم العربية)، وهي في التصنيف السوسيولوجي للحركات العقائدية تعني مجموعة اجتماعية عقائدية أو دينية يربط أفرادها إيمان قوي بمعتقدات شاذة تمارس طقوسًا وأساليب منحرفة اجتماعيًا، ويقودها فرد تقدسه الجماعة مسلوبة الإرادة. رأينا مأساة حصار مكتب التحقيقات الفيدرالي، في واكو في تكساس عام 1993، لـcult «الداودية المتفرعة» وزعيمها مدعي النبوة ديفيد كوريش، وبينهم أسر كاملة ونساء وأطفال من زوجات وأطفال كوريش الذي أقنعهم بالانتحار الجماعي في حريق التهم العشرات منهم. من ملامح الـ«CULT» اتخاذ مكان جغرافي معزول عن العالم، بمؤسسات اجتماعية داخلية وطريقة التعامل الاقتصادي ونظام قصاص غالبا ينتهك قوانين البلاد وحقوق الإنسان العالمية والعرف الاجتماعي (القوانين الأميركية تحدد سنًّا دُنيا للزواج ولا تسمح بتعدد الزوجات لكن كوريش تزوج عديدات دون السن القانونية). من خصائص الـ«cult» أنها مع توسعها ابتداء من الدائرة الخارجية الثانية من الجماعة فإن تجنيد الأعضاء الجدد وتعريضهم أولاً لهز معتقداتهم المستقرة في حياتهم اليومية ثم زرع منظومة «مثالية» جديدة في عقولهم عبر تكرار الارتباط الشرطي بين ما هو «سلبي» وما هو قائم، وارتباط إيجابي بين البديل أي المرغوب وما يقدمه الـ«CULT» (ما يعرف بغسل المخ)، لا يتم عبر قادة الـ«كلت» من الدائرة المركزية، بل عبر الأعضاء الجدد المؤمنين أصوليًا بعقيدة المجموعة والذين يعيشون فانتازيا عالم موازٍ (parallel reality) يصدقون بالفعل أنه الجنة الموعودة (مثلاً تلميذات هربن إلى «داعش» تستغرب معلماتهن في لندن كيف يقبلن ما يسمونه جهاد النكاح والتحول إلى خادمات «للمجاهدين» بينما روجن للمساواة بين الجنسين في المدرسة). «داعش» يمول ذاتيًا (كمستوطنة كوريش في واكو) وقوانينها تنتهك القانون الدولي وقوانين كل من سوريا والعراق. التحرك إليها «هجرة» دائمة لرافضي المجتمع المألوف. إرهابها ليس عشوائيًا، وإنما منظم بطقوس حددها البغدادي (منها قطع الرؤوس وزي خاص للجلاد وخطاب التبرير والفيديو المسجل). أسلوب المخاطبة على الإنترنت يبين فارق التطور بين دعوة «القاعدة» للإرهاب وبين أسلوب الـ«CULT» لـ«داعش» بحوار البريطانيات المسلمات زميلاتهن بالدعوة إلى «الهجرة» من المجتمع الأوروبي إلى دولة الخلافة المزعومة. انتشار الدعوة كانقسام خلايا الأميبا وليس كتنظيم هرمي، فتزداد صعوبة وضع دعاة «داعش» تحت المراقبة لحماية الفتيات والأسر من سمومهم. ومثل عصابات المخدرات التي تحول الأبرياء إلى مدمنين هم ضحايا، وفي الوقت نفسه مروجو مخدرات يسحبون زملاء الفصل الدراسي سابقًا إلى مستنقع الإدمان، وبدورهم يصبحون مروجي المستقبل، وتتسع الدائرة، فضحايا دعوة «داعش» تحولوا في ظرف أسابيع إلى دعاة لا يزالون يتحدثون لغة بتعبيرات ومصطلحات يألفها الزملاء والزميلات مما يسهل المهمة. لا يوجد لمؤسسات الحكومة برنامج متماسك فعال لمكافحة الظاهرة. ففضلاً عن نقص مؤهلات غالبية مستشاري الحكومة البريطانية (أصولهم آسيوية يجهلون اللغة العربية لغة القرآن والفلسفة الإسلامية)، فإن بينهم أعضاء في التنظيم الدولي لـ«الإخوان المسلمين» تسربلوا بعباءات أكاديمية. الحكومة البريطانية تنفق بسخاء على منظمات تدعي أنها تكافح «ردكلة» الشباب بلا مقياس لنجاح يدل على إقناع شباب بالتراجع عن الداعشية (إحدى هذه المنظمات ألقت باللوم على أجهزة الأمن كمبرر لعنف الشاب البريطاني الكويتي الأصل الإرهابي جون بدلاً من إدانته كقدوة سيئة). أسلوب الجدل الفلسفي لهذه التنظيمات لم يعد ينفع في مواجهة التجنيد بطريقة الـ«cult» خارج مجموعة الدعاة الراديكاليين المعروفة، لأن الدعاة أنفسهن (معظمهم الآن نساء وفتيات)، ضحايا يتصلون مباشرة بالضحايا الجدد، ولذا ففرصة مؤسسات الحوار (المدعومة بسخاء) في محاورة الدعاة أو ضحاياهم شبه معدومة. الجميع يتجاهل أحد أهم أسباب جاذبية داعش للمجندين والمجندات: النجاح الذي حققته وفشلت فيه «القاعدة»، أي إقامة ما يبدو نواة حلم الخلافة التي تتسع وتتمدد. قطاع عريض في الرأي العام يصدق خرافة تروجها الـ«بي بي سي» واليسار كأسباب «هجرة» مسلمي بريطانيا إلى «داعش»: إحساس المسلمين بالظلم والفقر والانعزالية (واقعية معظم المتشددين خريجي الجامعة من أسر ميسورة الحال اجتماعيًا أفضل من جيرانهم البيض)، أو لوم السياسة الخارجية كالحرب على الإرهاب وغزو العراق وأفغانستان وحرب غزة 2011 (لم توجد هذه الأسباب قبل 70 عامًا وقت إرهاب جماعة الإخوان المسلمين، الأصل التاريخي والعقائدي لـ«داعش» وأمثاله، كتفجير دور السينما واغتيال القضاة والساسة؛ «القاعدة» هاجمت السفن في البحر الأحمر والسفارات في أفريقيا ثم 11 سبتمبر/ أيلول، قبل «الحرب على الإرهاب» وأفغانستان والعراق، ولم يهاجم «داعش» القواعد الغربية في تركيا، بل هاجم و«القاعدة» المسلمين في بلدان إسلامية، والتحق مسلمو بريطانيا بتنظيمات إرهابية قبل حرب غزة 2011 بسنوات عديدة؛ ولم يطلق «داعش» أو «القاعدة» رصاصة واحدة باتجاه إسرائيل). خرافات اليسار عن مسؤولية السياسة الخارجية تكبل أيدي الساسة عن تشكيل تحالف عسكري لتدمير «داعش» على الأرض (الغارات الجوية وحدها لا تكفي) لإطفاء بريق الانتصار الذي يجذب مسلمي الغرب «للهجرة» إلى التنظيم. وترتبط بذلك خرافة أخرى روجها اليسار وأنصاف المثقفين وصحافة ضحلة المعرفة بالجغرافيا والتاريخ، بأن دولة الإرهاب نتيجة الداعشية صراع بين الشيعة والسنة، وهو بدوره يشكل عائقًا آخر أمام اتخاذ قرار تأسيس تحالف عالمي للتدخل. وربما الخرافة الأكثر خبثًا وضررًا، والمسؤول عنها اليسار وساسة واشنطن وبروكسل ولندن، هي رفض الحقيقة التاريخية بأن «داعش» و«القاعدة» وظاهرة الـ«cult» الشريرة هم أبناء جماعة الإخوان المسلمين آيديولوجيًا وعضويًا وبعضها على ارتباط بتنظيمهم الدولي.