في خضم التحولات السياسية والاقتصادية الهائلة التي يعيشها العالم اليوم فقد تزايد الاهتمام بمراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية وأصبحت من مقتضيات الضرورات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية التي تعكس اهتمام الشعوب بالعلم والمعرفة والتقدم الحضاري واستشراف آفاق المستقبل ومن كونها تشكل نافذة وعينا بصيرة تسابق الزمن، لترسم السياسات المتناغمة مع المستجدات الحالية والمستقبلية، ولا يخفى أن هناك إجماعا عالميا اليوم على قوة تأثير مثل هذه المراكز في صناعة القرار، لأن من يملك المعلومات يملك القوة، ولا أبالغ إن قلت إن لها دورا أساسيا في نهوض الأمم وتقدم الشعوب نحو تحقيق أهدافها ورسم التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأحد المؤثرين فيها، وأحد المشاركين في وضع الحلول الناجحة لها، وقد تطرقت لهذا الموضوع الهام أكثر من مرة ولكن أجدها فرصة لتكرارها بطريقة مختلفة. ولعله من نافلة القول الإشارة إلى أن مثل هذه المراكز المتخصصة في الدراسات الاستراتيجية تقدم خدمة عظيمة لصانعي السياسات من خلال ما تقدمه من دراسات وبحوث وتقارير متنوعة حول القضايا العالمية التي تهم وتؤثر على السياسات المحلية أو العلاقات الخارجية، ولهذا نجدها تحظى بدعم وتشجيع من تلك الحكومات لما تقدمه من تحليل عميق للقضايا السياسية الدولية، وبما تقدمه من تقارير ومعلومات غنية قد تكون بعيدة عن متناول السياسيين والقادة العسكريين. بوسعي الآن أن أستعرض الكثير من مراكز الأبحاث لكن هذه العجالة لا تكفيني وسأكتفي بالإشارة إلى اعتماد كثير من دول العالم في الغرب أو الشرق وبخاصة الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل وروسيا والصين واليابان على مراكز الدراسات الاستراتيجية، التي اتسعت دائرة نشاطاتها من حيث الحجم الكمي، ومن حيث نوعية المساهمات التي تقدمها، إذ تعمل البلدان المتقدمة على دعمها والإنفاق عليها ورفدها بأفضل العناصر من الخبراء والمستشارين الذين يساهمون في خدمة صنع القرار ومساعدة بلدانهم في رسم علاقاتها الدولية السياسية والعسكرية، سواء كانت تابعة للجهات الحكومية كوزارات الخارجية أو الدفاع، أو كانت مستقلة أو تابعة للمؤسسات الأكاديمية، فعلى سبيل المثال يعتبر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن (CSIS) واحدا من أكثر المراكز المتقدمة نشاطا وتأثيرا في السياسة الأمريكية إذ ينظم المركز نشاطه على هيئة مشاريع لمختلف القضايا العالمية من خلال هيئات ولجان متخصصة لكل منطقة جغرافية في العالم. والمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في بريطانيا (IISS) الذي يلعب دورا مهما في صياغة الرؤية الاستراتيجية لكثير من القضايا السياسية والعسكرية في العالم، فضلا عن عدد من مراكز الدراسات الاستراتيجية التي تحتضنها الجامعات الأمريكية والبريطانية وتعنى بإعداد الدراسات والبحوث في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، أما إسرائيل فتملك عددا كبيرا من مراكز ومعاهد الدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والعرقية سواء الموجودة في داخل إسرائيل أو خارجها وهي تعمل على خدمة أهدافها في المنطقة العربية والعالم. غير أن الدور الذي اضطلعت به المراكز الاستراتيجية في الوطن العربي، مختلف عما هو عليه الأمر في الغرب كما ونوعا وسوف أتطرق لها في مقال لاحق لأهمية وجودها ولغياب أثرها لصانعي القرار. إن المخاطر المحدقة التي تحيط بنا يجعل من الضروري التحرك في رصد هذه القضايا بطريقة علمية منهجية من خلال مراكز للدراسات الاستراتيجية التي يعول عليها دراسة الوضع في إيران مثلا ولا أقصد به الوضع المذهبي والطائفي الذي يسعى إليه المعممون هناك بهدف إعادة إمبراطورية فارس، ولكن لدراسة الوضع الاقتصادي والعسكري والأمني فيها. وهل لدينا معلومات قائمة على دراسات استباقية إلى أين ستتجه الأوضاع في سوريا واليمن والعراق التي لها حدود واسعة مع المملكة، وماذا عن الصين مثلا التي باتت تحتل أهمية بالغة وصارت لغتها الاكثر انتشارا، وهي تحتل مكانة عالمية منافسة إذ يتوقع منها أن تتبوأ مراكز متقدمة في كثير من المجالات على مستوى العالم وهي المهملة في حساباتنا برغم أن السحوبات البترولية صارت أغلبها تتجه إلى الشرق وليس الغرب بعد أنباء عن الاكتفاء الذاتي الأمريكي من النفط الخليجي خلال السنوات القليلة القادمة والتغيرات المتوقعة في إنتاج الطاقة، إذ ينتظر من دول شرق آسيا وبالذات الصين وكوريا الجنوبية أن تأخذ دورها لزيادة الطلب على بترول الشرق الأوسط وبالذات الصين وكوريا الجنوبية ومن المهم أن نبني علاقات استراتيجية مع هذه البلدان.. للحديث تتمة.