يظن كثير من الناس أن اليمن يمر هذه الأيام بأزمته الكبرى، على إثر العمليات العسكرية لعاصفة الحزم، ولا يعلمون أن اليمن أصلا يعيش منذ عقود أعنف وأطول الأزمات وأكثرها تعقيدا على وجه الأرض، فهو يرزح تحت نير المتسلطين من أبنائه الذين ظنهم ووصفهم بالأعزاء، ويعاني من قبح فسادهم الممتد منذ ما قبل الطلقة التي اخترقت جسد الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي، صاحب العهد الثالث للجمهورية في اليمن. لقد سئم الإنسان اليمني من سلسلة أكاذيب السلطة التي لا نهاية لها، وبات على يقين بأن المتاجرين بالوطن والشعب هم أولئك الذين يحرمونهم من أبسط حقوق المواطنة الحقة، وهم أولئك الذين يرفعون أعلى شعارات العدل والحرية والديموقراطية وهي بريئة منهم براءة الذئب من دم يوسف. وما أظن الأحداث الحالية في اليمن، إلا ولادة قيصرية لمستقبل اليمن الجديد، اليمن الذي حلم به الشباب اليمني المتحفز. فاليمن بلد جميل ضاربة جذوره في التاريخ، ويتمتع بمميزات جغرافية استراتيجية وثروات هائلة، بحاجة إلى عقل يخطط لاستثمار خيراته، لا إلى عقل يفكر في كيفية السيطرة عليه ونهبه وبناء الثروات الخاصة، اليمن بحاجة إلى روح قيادية ملهمة وليس إلى أفاكين وأصحاب مشاريع شخصية وأجندات خارجية، اليمن بحاجة إلى التخلص من عقلية العصابة، التي ترى في اليمن خزينتها العائلية. لقد دفع اليمن على مر السنين ثمنا غاليا، بسبب هؤلاء المتسلطين، ولا يزال يدفع نتيجة لعقوق المنتفعين وحواشيهم المشبوهة، الزمرة التي غيبت الشخصية البهية للإنسان اليمني طويلا، فاليمنيون مبدعون ومنتجون أينما وضعتهم حين تتوافر لهم الظروف المناسبة، فهم في "شيفلد" البريطانية - المصنفة في موسوعة الويكيبيديا كإحدى أفضل مدن البلاد جودة في المعيشة - يقودون صناعة الحديد والصلب والموانئ، وتجار في بيرمنجهام وكارديف، وفي شيكاغو وديترويت ومتشجن الأميركية يسيطرون بحضورهم في مشهد صناعة السيارات، وقيادات تجارية في إندونيسيا والهند وقوانزو الصينية. ثم حين تنظر إلى اليمني في بلاده يعتصرك الألم، وتصيبك الدهشة من بلد يصدر المبدعين ولا يستثمرهم؟! عقود كثير مرت على الثورات اليمنية في الشمال والجنوب، ولم يحدث في اليمن التغيير النوعي الذي كان يأمله الإنسان اليمني بالداخل والخارج، ولم تقدم حكوماته ما يشفع لها بالبقاء في حساباته ويومياته، لأن يد وفكر السُرّاق كانت الأطول على الدوام. إذن لا غرابة في ظهور مزايدات بعض الأصوات المتباكية هنا وهناك، التي ترفض وتستنكر العمليات العسكرية لعاصفة الحزم في اليمن حاليا، وتختزل كل مآسي اليمن في خطاباتها العاطفية الوجدانية في نقاط العدوان والاعتداء، فهي إنما تتباكى على انهيار أحلامها الشخصية، التي يشاهدون سقوطها المدوي أمام أعينهم في الواقع، ويحضرون نهايتها ببؤس، في محاولة لتكرار مشاهد سابقة، فهم لا يبكون اليمن بقدر ما يبكون أناهم المتضخمة، فقد كان اليمن في المرتبة الثانية دائما وأبدا أمام أنظارهم وفي ضمائرهم وأرواحهم، لذلك لم يمنحوه ولو قضمة صغيرة من رغيف هو في الأصل رغيفه، بل تلاعبوا بالأسلحة على جراحه وألمه. أتمنى ولو لمرة واحدة كيمنيين أن نحمل أنفسنا المسؤولية، ونتصرف إزاء ما يحدث كما يجب، وأن نتجنب الوقوع في مصيدة العواطف التي تعبر من خلالها خطابات السياسيين النارية المثيرة، ثم لا ترى لهم طحينا. وأن يتخلص العقل اليمني الذي اختطفه اللصوص، من عقدة المؤامرة وأن الآخر يريدنا أن نظل محاصرين داخل مربع الفقر والتخلف! هذه الأفكار في الحقيقة صنعها أصحاب المصالح داخل اليمن وروج لها، كي لا تخرج البلاد والعباد من قبضته. لكن حتى وإن افترضنا جدلا صحة ذلك، فما الحلول التي طرحتها أو قامت بها الحكومات التي تعاقبت على الحكم في اليمن لمقاومة ذلك؟ الإجابة ستجدها ببساطة في الشارع اليمني الذي سيجيبك بوضوح: لقد فضل أفراد تلك الحكومات قبض الرشاوى والهبات على حساب الشعب اليمني، لتكون المشكلة في فساد الرأس والداخل، المواطن اليمني نفسه يعرف الإجابة بتفاصيل مملة، وستؤكد لك نتيجة ونسبة التصويت المرتفعة المؤيدة للتدخل البري الذي وضعته قناة روسيا اليوم على موقعها الإلكتروني، وأن الملل والاستياء قد بلغ حده عند شعبنا اليمني. اليوم تأتي الفرصة للتخلص من كومة كبيرة من السياسيين الفاسدين دفعة واحدة، وفرصة سانحة للاقتراب من حلم الدولة اليمنية الجديدة، واستعادة هيبة الدولة من براثن أصحاب تجار المشاريع الخاصة والخارجية الذين يزايدون على الوطن والوطنية، وهم يبيعون ويشترون فيها، يجب أن يرحلوا جميعا ليكون اليمن لليمنيين حقا مترجما على أرض الواقع، وكأني أرى طلائع ملامحه تتشكل في الأفق.