من بين مخرجات عدة مهمة للقمة العربية الأخيرة، برز مسعى تشكيل قوة عسكرية عربية مشتركة، وهو أمر ليس بالسهولة التي يتخيلها كثيرون. فلطالما استعصى على تجمعات وأنظمة إقليمية شتى تشكيل قوة عسكرية موحدة، على رغم بلوغ مستوى التعاون السياسي والاندماج الاقتصادي بينها مبلغاً متقدماً. فلم يكن التقارب الاندماجي غير المسبوق بين دول الاتحاد الأوروبي الثمانية والعشرين ليسفر عن تشكيل جيش أوروبي موحد أو قوة عسكرية موحدة تحت إشراف البرلمان الأوربي، على رغم توقيع دول الاتحاد على معاهدة لشبونة في عام 2007، والتي وضعت بدورها أطراً سياسية ومؤسسية لهذا الأمر بتجديدها التشديد على ضرورة تفعيل اتفاق الدفاع الأوروبي المشترك وإنشاء ونشر قوات للردع السريع، فضلاً عن إصلاح مؤسسات الاتحاد وتنشيط عملية صنع القرار فيه، ليحل ذلك الاتفاق بذلك محل الدستور الأوروبي الذي سبق أن رفضته كل من فرنسا وهولندا عام 2005، بعد أن تم اعتمادها والتصديق عليها وباتت سارية المفعول في أواخر عام 2008. عربياً، لا تزال تجربة قوات «درع الجزيرة» التي أسستها دول مجلس التعاون الخليجي، تواجه عثرات شتى في ما يتصل بحجمها وطبيعة دورها وإمكان استمرارها من عدمه. فبعدما وقعت دول مجلس التعاون في كانون الأول (ديسمبر) 2000 في المنامة، معاهدة دفاع مشترك تلتزم فيها بالدفاع عن أي دولة من دول المجلس تتعرض لتهديد أو خطر خارجي، اجتمع وزراء دفاع دول المجلس في مسقط في تشرين الأول (أكتوبر) 2002، وأعلنوا عزم دولهم رفع تعداد هذه القوة إلى 22 ألف رجل. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، صرح يوسف بن علوي وزير الشؤون الخارجية العماني بأن قوة «درع الجزيرة» لم يعد لها حاجة بعد زوال نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين. وبعد هذا التصريح بنحو شهر اقترحت السعودية تفكيك القوات وأن تشرف كل دولة على وحداتها المشاركة فيها بحيث يمكن استدعاؤها في حال الضرورة. ثم اقترحت السعودية في تشرين الثاني 2006، زيادة تعداد قوات «درع الجزيرة» ليصل إلى مئة ألف مقاتل وإنشاء نظام مشترك للقيادة والسيطرة. وخرج الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي (وقتذاك) عبدالرحمن العطية بإعلان في أيار (مايو) 2008 في شأن تمركز الوحدات المشاركة في قوات «درع الجزيرة» في بلدانها الأصلية. وحينما استعانت البحرين بقوات «درع الجزيرة» في آذار (مارس) 2011، لتأمين المنشآت الاستراتيجية فيها عقب احتجاجات قوى المعارضة الشيعية، اندلع جدل كبير في شأن هذا التدخل على اعتبار أن تلك القوات تأسست للتحرك ضد أي عدوان خارجي وليس للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الخليجية. وعندما استغاثت السلطات الشرعية في اليمن بمجلس التعاون الخليجي والمجتمع الدولي للتدخل بغية دعم الشرعية والحيلولة دون التوسع الحوثي في اليمن، لم تكن استجابة دول مجلس التعاون الخليجي بالتدخل العسكري عبر قوات «درع الجزيرة»، وإنما قادت السعودية تحالفاً يضم دولاً عربية وغير عربية. وكثيرة هي التحديات التي تعرقل مساعي تشكيل قوة عربية مشتركة، من أبرزها: - انهيار جيوش نظامية عتيدة في عدد من الدول العربية، أو انزلاقها إلى أتون الحرب الأهلية والصراع على السلطة، كما في سورية والعراق وليبيا واليمن. أما الجيوش النظامية العربية التي سلمت من الانهيار أو الحرب الأهلية، فإما أنها متواضعة التعداد والتسليح كجيوش بعض دول الخليج وتونس ولبنان، أو أنها منغمسة في حروب ضارية ضد الإرهاب كالجيش المصري. - غياب الإجماع أو التوافق العربيين حول الفكرة من أساسها. فمن جهة، تفتقد اتفاقية الدفاع العربي المشترك، التي تتواتر الدعوات الآن إلى تفعيلها باعتبارها الأساس القانوني والمؤسسي الذي تبنى عليه القوة العربية المشتركة المزمعة، إلى الإجماع العربي، ذلك أن من وقَّع عليها في عام 1950، كان ست دول عربية فقط هي مصر وسورية والعراق ولبنان والأردن والسعودية، بينما يستوجب تحقيق مبدأ الدفاع العربي المشترك اتفاق الدول العربية كافة على التحديات التي تواجهها في المرحلة الحالية، كما على سبل وآليات التعاطي معها. ومن جهة أخرى، ما برحت دول عربية كعُمان والجزائر وليبيا وسورية والعراق تتحفظ عن المبدأ، فعلاوة على معارضة تلك الدول تدخل قوات عربية في ليبيا أو اليمن معتبرة إياه عسكرة للخلافات السياسية وباعثاً للإرهاب والفوضى والحروب الأهلية، ما زالت تتخوف من تداعيات تشكيل قوة عربية مشتركة. ففي حين تتمسك دولة مثل الجزائر بـ «رفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول» تتوجس دول عربية أخرى خيفة من الغايات الخفية لتشكيل تلك القوات. - هناك اتفاقات دفاع مشترك وقعتها دول عربية مع دول غير عربية، على شاكلة تلك التي وقعتها دول الخليج مع أميركا وفرنسا وبريطانيا، أو التي أبرمتها سورية مع إيران عام 2006، ولا تزال تلك الاتفاقات تشكل حجر الزاوية للأمن الوطني لهذه الدول. في المقابل، لم تكن التحديات التي تعرقل جهود تشكيل قوة عربية مشتركة لتمنع بروز بشارات إيجابية في هذا الصدد من أهمها: - عاصفة الحزم: على رغم الإخفاقات التي حالفت محاولات العرب لتعزيز التعاون العسكري في ما بينهم، لم يضن التاريخ عليهم ببعض التجارب الناجحة التي يمكن الاهتداء بها مستقبلاً، سواء خلال الحروب التي دارت رحاها بينهم وبين إسرائيل، أو إبان عملية تحرير الكويت عام 1991، ثم تدخل قوات «درع الجزيرة» في البحرين عام 2011، وصولاً إلى التجربة الأبرز المتمثلة في قيام قوات عربية تقودها السعودية بتوجيه ضربات موجعة ضد معاقل الحوثيين في اليمن من خلال عملية «عاصفة الحزم» هذه الأيام. فقد شاركت 185 طائرة مقاتلة في العملية، بينها مئة من السعودية وثلاثون من الإمارات وخمس عشر من الكويت ومثلها من البحرين، بينما شاركت قطر بعشر طائرات، والأردن بست طائرات، وكذلك المغرب بست طائرات، والسودان بثلاث طائرات. كما أبدت كل من مصر والأردن والسودان وتونس وجيبوتي استعدادها للمشاركة في العملية البرية إذا تم المرور إلى هذا الخيار. وحرصت مصر على تيسير عملية تشكيل القوات العسكرية العربية المشتركة عبر طرق شتى، أبرزها: التشديد على أن المشاركة في القوة المُقترحة ستكون اختيارية، وسيأتي شكل المساهمة وحجمها فيها على حسب إمكانات كل دولة، إذ تم الإعلان أنه سيتم توزيع الأدوار على الدول العربية المشاركة في تلك القوات بحيث تعتمد على مشاركة عسكرية من الدول التي تمتلك جيوشاً ومعدات، فيما ستتلقى دعماً لوجيستياً من الدول الأخرى. وقد روعي أيضاً أنه إذا ما وجدت صعوبة في العمل تحت مظلة جامعة الدول العربية، فإن الدول المشاركة ستشكل الشرعية، مثلما حدث في الائتلاف الدولي لمواجهة «داعش». وسبق أن أعلن مسؤولون مصريون أنه في حال لم يحظ الاقتراح المصري بموافقة القمة العربية ستشكل تلك القوات بمن حضر ووافق. - إقرار القمة العربية: أعطى إقرار القمة العربية السادسة والعشرين لمشروع القرار المصري بإنشاء قوة عربية موحدة، والذي وافق عليه وزراء خارجية الدول العربية خلال اجتماعهم التحضيري، زخماً لمساعي تشكيل القوة العربية المشتركة. فقد كلفت القمة رئاسة دورتها الحالية متمثلة بالرئيس السيسي بالبدء بالخطوات الخاصة بتشكيل القوة المشتركة وعرض نتائج أعمالها في غضون ثلاثة أشهر على اجتماع خاص لمجلس الدفاع العربي المشترك لإقراره. وأوضح الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي أن فريقاً رفيع المستوى تحت إشراف رؤساء أركان القوات المسلحة للدول الراغبة في المشاركة سيُدعى إلى اجتماع خلال شهر لدراسة جوانب الموضوع كافة واقتراح الإجراءات التنفيذية وآليات العمل، مشيراً إلى أن الاتصالات بدأت بالفعل للدعوة إلى ذلك الاجتماع. - تطمين العالم: حسناً فعل الرئيس السيسي حينما سعى إلى تطمين القوى الإقليمية والدولية في شأن القوة العربية المشتركة المزمع تشكيلها، إذ أكد خلال محادثاته مع زعيم الغالبية في البرلمان الألماني فولكر كاودر، عقب القمة العربية مباشرة، أن هذه القوة ليست موجهة ضد أي طرف، والهدف من إنشائها هو المساهمة في تحقيق الاستقرار المنشود والحفاظ على وحدة الأمة العربية وصون مقدراتها، إلى جانب تحقيق آمال وطموحات شعوبها، لا سيما أن المنطقة تمر بمرحلة شديدة الاضطراب والاستقطاب. - تعديل ميثاق الجامعة: تزامن انعقاد القمة العربية الأخيرة مع مرور سبعين عاماً على تأسيس الجامعة العربية، وفي هذا السياق، تقدم اجتماع وزراء الخارجية بطلب تعديل لميثاق الجامعة إلى القمة تمهيداً لإقرار التعديلات المقترحة، بخاصة تلك المتعلقة بمشروع النظام الأساسي لمجلس السلم والأمن العرب، الأمر الذي من شأنه تمهيد الأجواء القانونية والسياسية والمؤسسية لتأسيس وتفعيل القوة العربية المشتركة. - دعم أميركي: فقد أكد وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر أثناء زيارة قاعدة «فورت درم» العسكرية في ولاية نيويورك، دعم بلاده خطط العرب لإنشاء قوة عسكرية مشتركة للتصدي للتهديدات الأمنية المتزايدة في الشرق الأوسط، وأن البنتاغون سيتعاون معها في المجالات التي تتوافق فيها المصالح الأميركية مع المصالح العربية، لا سيما أن عدداً من المشاركين العرب لديه بالفعل شراكات أمنية ثنائية مع الولايات المتحدة. ولعل الترحيب الأميركي بذلك التحول في الاستراتيجية العربية، غير الموجه ضد إسرائيل، إنما يعود إلى رغبة واشنطن في التخلي عن سياسة التورط المباشر في صراعات إقليمية لحماية مصالحها أو نصرة حلفائها، وجنوحها للاعتماد على وكلاء إقليميين للقيام بدور شرطي المنطقة نيابة عنها وتحت قيادتها وتوجيهها في إطار استراتيجية «القيادة من الخلف».