الاختيَار نِعْمَة مِن نِعم الله عَلى البَشر، فالإنسَان يَختَار مَا يَأكل، وفِي الغَالِب يَختَار أين يَسكن، وقَد يَختار أين يَعمل، وقَد يَختار أيضاً مَن يُحب، ولَكن أَصْعَب الأشيَاء حِين يُريد المَرء أنْ يَختار مَاذا يَكتب؟ ومَاذا يُؤلِّف..؟! كنتُ أَظنُّ أنَّ إشكَالية الاختيَار إشكَاليّة عَرفجيّة، تَخصّني وَحدي، ولَكن حِين بَدَأتُ أُعيد قِرَاءة العقد الفَريد للأديب الكبير «ابن عبدربه»، شَعرتُ أنَّ الاختيَار للفِكر أَمرٌ شَائِك، مُحيِّر، يُشبه -إلَى حَدٍّ مَا- دَهشة وحيرة طفل؛ دخل مَحلاً لبيع لعب الأطفَال، فلَا يدري ماذا يَأخذ؟ ومَاذا يَترك..؟! يَقول «ابن عبدربه» في بِدَاية كِتَابه: اختيَار الكَلَام أصعَب مِن تَأليفه، وقَد قَالوا: «اختيَار الرَّجُل وَافد عَقله». وقَال الشَّاعِر: قَدْ عَرَفْنَاكَ بِاخْتِيَارِكَ إِذَا كَا نَ دَلِيلاً عَلَى اللَّبِيبِ اخْتِيَارُهُ ثُمَّ أَخَذ «ابن عبدربه» يَحشد ويُعدّد الأدلّة؛ عَلى حيرة المَرء أمَام اختيَارَاته وخيَارَاته، مُذكِّراً بقَول أَفلَاطُون: (عقُول النَّاس مُدوّنة في أطرَاف أقلَامهم، وظَاهرة في حُسن اختيَارهم).. وهَذه مَقولة جَيّدة ومُنَاسبة لعَصرنا، الذي يُسمّى عَصر المُدوّنات..! أكثَر مِن ذَلك: قَال الإمَام «يحيى بن خالد»: (النَّاس يَكتبون أحسَن مَا يَسمعون، ويَحفظون أحسَن مَا يَكتبون، ويَتحدَّثون بأحسَن مَا يَحفظون)..! وقَد لَخّص المَسألة كُلّها الإمَام «ابن سيرين»، حِين قَال: (العِلْم أكثَر مِن أنْ يُحَاط بِهِ، فخُذوا مِن كُلِّ شَيء أحسنَه)..! ولله درّ العلّامة «العتابي» حِين قَال: (مَن قَرض شِعراً أو وَضع كِتَاباً؛ فقَد استَهدَف الخصُوم واستَشْرَف الألسُن، إلَّا عِند مَن نَظَر فِيهِ بعَين العَدل، وحَكَم بغَير الهَوَى، وقَليلٌ مَا هُم)..! حَسناً.. مَاذا بَقي؟! بَقي القَول: نَظراً لأنَّ الاختيَار بَين الأشيَاء أَمر مُحيّر، فقَد شُرعت في الإسلَام صَلَاة الاستخَارة، ومَا ذَاك إلَّا بسَبب الحيرَة الزّرقَاء؛ التي تَستولي عَلى فِكر صَاحب الخيَارين، أمَّا في الثّقَافَة فيَكفي قَول الله -جَلّ وعَزّ-: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)..!!! تويتر: Arfaj1 Arfaj555@yahoo.com