كثير من نقاشاتنا الاجتماعية مع أصدقائنا ومعارفنا في المجالس والمقاهي والاستراحات وغيرها من التجمعات لا تخلو من احتدامات فكرية وتجاذبات لفظية تشبه إلي حد التطابق ما نشاهده من نقاشات وحوارات ساخنة على شاشات الفضائيات العربية ، أوداج منتفخة وأنفاس متلاحقة وأصوات متضخمة تنتهي عادة باحتقان نفسي واهتياج وجداني يحملها كل منا فوق صدره وهو عائد إلى منزله ، وبالنظر في معظم هذه النقاشات نجد أن جلها يرتكز على ما سطره المؤرخون الأوائل لنا ، كل يقرأ التأريخ بطريقته وعلى النحو الذي يشبع منهجه ويغذي فكرته ورؤيته ، الحدث التأريخي واحد غير أن ما نسج حوله من حكايا فبالعشرات وربما بالمئات ، فلا تحققت لنا العبرة بالحدث التأريخي ولا تمكنا من فك هذا الشبكة الملتفة حول عنق ذلك الحدث أو تلك الواقعة. ولو دققنا التأمل في كتب التأريخ لوجدنا أن معظمها ليست سوى خلجات وانطباعات المؤرخ ذاته التي ربما أن جلها لا يمت للحقيقة بصلة ، والدليل .. انظر لنشرات الأخبار في قنواتنا .. تجد الخبر واحدا.. والمشهد واحدا ! لكن كل يرويه لك وفق إيدلوجيات القناة وأهدافها ، فإذا كان هذا هو شأن واقعنا المعاصر اليوم الذي غدا فيه كل فرد الشاهد والموثق والمصدر للمعلومة في آن واحد فما بالكم بأحداث تأريخية طويت تحت مئات السنين ولم يعد يظهر منها سوى هذه الكتب وما فيها من تضاربات وتقاطعات تركها مؤلفوها في طريقنا( لنتكعبل فيها كما يقول المصريون ). هذ التحيز المفرط لمصادرنا التأريخية جعل من المستحيل إثبات شيئاً في التأريخ أو نفيه ! وفي ذات الوقت جعل من فضيلة إعادة التفكير في القناعات والمصادر التأريخية أمراً صعباً كونها تضع مصداقية البعض على المحك ؟! إن تجاهلنا لحقيقة أن التأريخ البشري اختراع بشري وجهد بشري يفترض أن تبقى سردياته وإخبارياته داخل الأطر البشرية فقط هو ما يفضي لكثير من نزاعاتنا وخلافاتنا المخفية منها والمعلنة والتي ما من خلاص منها بغير إدراك وفهم خلفيات وأهداف كل مؤلف على حده ، فبعضها إن لم تكن من أجل تضخيم أطراف على حساب أطراف أخرى فإنها لا تعدو عن كونها مجرد تكهنات قد يصيب شيء منها وقد يخفق، والمعنى.. أن ما من مؤرخ اتفق العلماء والباحثون في التأريخ العربي وغير العربي على أنه كتب إخبارياته بلا توابل ؟ وهو ما ينبغي أن يراودك وأنت تقلب في أي كتاب تأريخي بين يديك ، لكن في المقابل لا ينبغي أن نتجاهل ما في التأريخ من حقائق، إذ لا يعقل أن يكون كل كتّاب التأريخ مدلسون ، هناك حقائق وهناك أكاذيب.. وللحقيقة فإن مشكلاتنا ليست في تلك الأكاذيب أو تلك الحقائق.. مشكلتنا أن بعض الأكاذيب غدت حقائق والحقائق غدت أكاذيب.. هكذا بقصد منا وبغير قصد حتى باتت معاركنا الكلامية اليوم ليست سوى مرافعات ندافع بها عن تلك الحقيقة دونما يقين لدينا من كونها فعلاً حقيقة ، والعكس كذلك بالنسبة للأكذوبة التي نجند كل أدواتنا لدحضها وتفنيدها ونحن لا نعلم حقاً أهي أكذوبة حقاً أم لا !! غير أن كل ذلك يهون بالمقارنة مع مأزق اجترار كل هذه الجدليات التأريخية لنحاكم بها واقعنا وحاضرنا أو نجعل منها نقاط ارتكاز نشكل بها مستقبلنا. adalshihri@gmail.com twitter: @ad_alshihri