في انتظار الانهيار العسكري، سقطت الحركة الحوثية أخلاقياً وسياسياً منذ مدّة؛ فالجميع يعرف أنها غير قادرة على حكم اليمن، وأنها أجبَرت وأخضَعت القبائلَ والأحزاب بفعل امتلاك القوة المسلحة والاستيلاء على مؤسسات الدولة ومقدراتها بغير وجهٍ شرعي، كما استتبعت أتباع المذهب الزيدي ومراجعه رغماً عنهم؛ فهي لا تمثل المذهب، ولا المناطق التي ينتشر فيها، فما بالك بتمثيلها للشعب اليمني بكل تنوُّعه؛ فالمشروع، والمنطلقات، والمسلك السياسي، والتحالفات المحلية والإقليمية، كلها تُنْبِئ بسقوطٍ أخلاقي وسياسي. الحركة الحوثية لا تمتلك مشروعاً وطنياً جامعاً. إنها حركة فئوية وطائفية، حققت انتصارات وهمية بفعل قوّة السلاح ليس غير؛ فهي ليست إفرازاً للإرادة الشعبية اليمنية بطريقة مشروعة. كما أن مشروعها المستمد من التجربة الإمامية في تاريخ الدولة الزيدية لم يجمع حوله في يومٍ ما مختلف القوى والعائلات السياسية والاجتماعية والثقافية اليمنية، بما في ذلك الزيدية منها. لقد جمعت بين التجربة التاريخية للإمامة مع استنساخ تجربة حزب الله اللبناني وولاية الفقيه الإيرانية؛ مما أعطى توليفة لا يمكن تصنيفها أبداً؛ فلا هي زيدية تاريخية، ولا هي جعفرية اثنى عشرية؛ لذلك اصطدمت منذ ظهورها بمرجعيات زيدية يمنية، وأحزاب سياسية زيدية ليبرالية، وزيدية سياسية غير إمامية. ولذلك تجد مقاومة شعبية مدنية تتسع رقعتها يوماً بعد يوم. كما أنها لن تجد حليفاً سياسياً على المدى البعيد، وما علاقتها بعلي عبدالله صالح إلا علاقة مرحلية تكتيكية سرعان ما تتحطم أمام التحديات الداخلية والخارجية. حركة رجعيّة: إن أكثر الحركات الأصولية في العالم الإسلامي اليوم، التي تنطبق عليها صفة "رجعية" و"ظلامية"؛ هي: الحركة الحوثية؛ فهي لا تنتمي إلى هذا العصر، ونمط دولته، ومؤسساته، ومشروعية الأطراف الفاعلة فيه؛ وذلك بسبب فئويتها، وطائفيتها، وعدم إيمانها أصلا بمؤسسات الدولة الحديثة. ولقد ساندتها بعض الأطراف الحداثية اليمنية أثناء حروبها مع علي عبد الله صالح، ثم قبل سيطرتها على صنعاء، وكان ذلك على سبيل المماحكات السياسية ليس غير؛ بل كانت هذه الأطراف التي ساندت "الحوثي" في يومٍ ما من بين الأطراف المتضررة من اجتياح صنعاء، ولو كان "الحوثي" يؤمن بالشرعية الشعبية حقيقة، وبمقومات الدولة الحديثة؛ لسعى إلى الوصول للسلطة عن طريق الانتخابات، وليس باستخدام منطق القوة المسلّحة، لكنه واثق من أن امتداداته الشعبية محدودة في منطقة ضيقة بالمقارنة مع أرض اليمن الشاسعة، وكذلك محصورة في فئة معينة. أما ما دون ذلك فهم "متحوثون" لأسباب ظرفية ومصلحية لا غير. حركة مناطقية: نظراً لطائفيتها وفئويتها، ظلت الحركة الحوثية لا تمثل سوى شمال الشمال، بل حتى في هذه المناطق لا يمكن الحديث عن شعبية واسعة؛ نظراً لتقلب ولاءات القبائل بحسب المصالح والتمويل المحلي والإقليمي، كما أن امتداداتها المختلفة للمناطق الوسطى ليست سوى موضعية ومؤقتة، وسينفضُّ الجميع من حولها حالما يجدون ممولاً آخر، أو مع نضوب أو تقلص الموارد الحوثية. المعارضة الحزبية والمدنية: لكل هذه العوامل المذكورة سابقاً، لن يتمكن الحوثي من ترويض هذه الأحزاب التي لها حوالي نصف قرن من التجربة السياسية؛ فاليمن لم يحكمه حزب بمفرده منذ سقوط النظام الإمامي سنة 1962م، حتى نظام علي عبد الله صالح جمع بين الحزب والجيش والقبيلة، كما كان المؤتمر الشعبي العام - أيضاً - يجمع في داخله كل القوى السياسية والأيديولوجية، بما في ذلك الذين سيؤسسون الحركة الحوثية ويدعمونها. إن تظاهر الأحزاب السياسية اليوم بالتراجع أمام الحوثي يعني أنها تفتح عليه حرب المناورات والمماحكات التي لن تجعله يهنأ يوماً بحكم اليمن، بل ستستنزفه سياسياً، مثلما ستستنزفه القبائل بمناوشاتها المسلحة هنا وهناك؛ لذلك سيستحيل عليه الحفاظ على الأرض التي غزاها. أما شباب الثورة - الذي يتعرض الآن لحملات قمع شديدة من قبل الحوثيين - فهو الذي سيقود التمرد المدني ضدهم بدعم من الأحزاب السياسية، وهو الذي سوف يكشف زيف ادعاءات "أنصار الله" بأن سيطرتهم على العاصمة، وعبثهم بمؤسسات الدولة يمثل امتداداً لثورة 11 فبراير 2011م؛ فالحوثيون شكلوا جزءاً ضئيلاً من الثورة، لكنهم انقلبوا ضدها بسرعة لما رأوا أنهم لن يجنوا ثمارها، وأيقنوا أنّ رياح الثورة تسير في اتجاهات التحديث السياسي الذي لا يتناسب وقيمهم ومنطلقاتهم. الصعوبات الاقتصادية: الدولة اليمنية على مشارف الإفلاس مع انهيار أسعار النفط، وتراجع القدرة الإنتاجية من الحقول اليمنية، وانخفاض مداخيل الدولة، وشح المساعدات الدولية والإقليمية؛ فعلى أي طرف دولي أو إقليمي يعوِّل الحوثي تمويل استمرار انقلابه وإدارته الصعبة للبلاد؟! وماذا لو توقفت تحويلات العمالة في مهاجرها، وسحبت الدول المجاورة استثماراتها من اليمن؟ وفي النهاية: لن تتمكن إيران، في ضوء ظروفها الصعبة اليوم؛ من الاستمرار في تمويل: النظام السوري، وحزب الله اللبناني، وفصائل الحشد الشعبي العراقي، والحوثي في اليمن. إن التمرد الحوثي فتح على اليمن أبواب المجهول، وجعل منه بؤرة صراعات إقليمية تزداد حدتها يوماً بعد يوم، حتى وصلت إلى مواجهات مسلحة تتشابك فيها أطراف عدة، ولن تستفيد كثيراً من ادعاء أنها تواجه: القاعدة، وداعش، والتكفيريين؛ بل اتضح للجميع أن هيمنة الحوثي على اليمن بهذه الصورة وهذا المنحى الطائفي الواضح؛ ستؤدي حتماً إلى تحول اليمن إلى منطقة حروب طائفية تغذي الحركات المتطرفة وتمنحها المزيد من المبررات لاستقطاب المقاتلين من مختلف أنحاء العالم، على شاكلة ما يحدث في العراق وسورية. ولذلك - مع مرور الزمن، ومزيد من تكشف حقيقة الحركة الحوثية وخطرها المحلي والإقليمي والدولي - وجدت "حركة أنصار الله" نفسها في مأزق الإفلاس العام والسياسي والأيديولوجي، تواجه العجز عن الحفاظ على مكتسباتها الوهمية في رمال اليمن المتحركة، كما يعلمها القاصي والداني. الثورة التي خلعت "علي عبدالله صالح" سنة 2011م؛ كانت تبشر بدولة مؤسسات ومواطنة، إلا أن الحركة الحوثية أَبَتْ إلا أن توجهها نحو "دولة المذهب والطائفة". وهذا يمثل السقوط الأخلاقي والسياسي لحركة "أنصار الله" والمشروع الحوثي عامة؛ فالحركة التي يتزعمها "عبد الملك الحوثي" لم تلتزم يوماً ما بأي عهد أو ميثاق سياسي أو أخلاقي أبرمتْه أو رفعته كشعار لها. * باحث بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية