×
محافظة المنطقة الشرقية

جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تعلق الدراسة غداً

صورة الخبر

< يمكن أن أبدأ هذه المقالة بطريقة استعارية؛ أعني استعارة تجربة باحث في طبيعة الدين ومنشأ الدافع الديني، وهو فراس السواح، الذي عبّر عن إحدى تجاربه قائلاً: "عندما اتصل بصري بالقبة السماوية اجتاحني تدريجياً شعور لا يمكن إعطاؤه حقه من الكلمات. كانت "القبة السماوية" سيالة زرقاء تملأ الكون فتشدني إلى الأعالي، أو تهبط بالأعالي إلى حصيرتي. المآذن من فوقي تتقارب وتتلاقى، ثم تغيب في الأعماق، والأعمدة والجدران تتباعد ثم تتلاشى وراء آفاق غير منظورة. تحسست الزرقة تحت لساني وفي الأوعية الشعرية تحت الجلد، ثم تفتت قطعاً زرقاء تتطاير كندف قطن لا وزن لها. لم أعد موجوداً، أو لعل من الأنسب أن أقول: لم أشعر بمثل هذا الوجود الحق من قبلُ، ولن أشعر به إلا مرات قليلة بعد ذلك. لا أدري كم مضى عليَّ في تلك الحالة، وعندما أخذت الأشياء تستعيد صورتها من جديد مستجمعة شتاتها من هيولي نشأتها، تجمعت إليَّ أجزائي، وعدت سيرتي الأولى. ثم عادت إليه هذه التجربة الدينية مرة ثانية ليس في مسجد ولا في مدينته حمص؛ إنما في كاتدرائية مونماتر في مدينة باريس "ارتفعت قبة الكنيسة، توسعت حتى تلاشت في الظلام الكوني، وتباعدت الجدران والأعمدة. تحولت الأشياء إلى كلمات لا تنضوي كل كلمة على معنى بعينه، بل تحتوي كلُّ كلمة كلَّ كلمة أخرى، معنى واحداً يتبدى بألف لون ولون، ثم رأيتني على صليب تتطاول أذرعه نحو اللانهائيات الأربع وأنا في نقطة التقاطع" . *** كيف نحلل هاتين التجربتين؟ إن أول ما يلفت النظر هو تعلقهما بطبيعة الإنسان منظوراً إليه على أنه قابل لأن تحدث له تجربة كهذه؛ أي لو أن الإنسان غير قابل لتجربة كهذه لما حدثت، وهذا يعني أن هناك استعداداً إنسانياً قبلياً لتجربة كهذه. أين يوجد هذا الاستعداد؟ معظم الظن في طبيعة الذهن الإنساني، فلو لم يكن ذهن الإنسان قابلاً لتجربة كهذه لما حدثت. لكن حتى لو كان الذهن الإنساني مستعداً قبلياً لمثل هذه التجربة، فمن الواضح أننا لا نستطيع أن نتفهّمها في ضوء العقلانية؛ ذلك أن العقلانية تعجز عن تبرير عبارة كهذه "تحسست الزرقة تحت لساني، وفي الأوعية الشعرية تحت جلدي"، أو عبارة أخرى كهذه: "كانت "القبة السماوية"سيالة ورقاء تملأ الكون فتشدني إلى الأعلى، أو تهبط بالأعالي إلى حصيرتي". إن الأمر يتعلق بما إذا أزاحت العقلانية في هذه التجربتين اللاعقلانية أم العكس. وكما سنعرف استناداً إلى تأملات رودولف أوتو كيف أن المفكرين العرب القدماء عجزوا عن تبرير الجانب غير العقلاني في التجارب الدينية للأشخاص العاديين؛ وبدلاً من أن يقبلوا العنصر اللاعقلاني في تجارب هؤلاء الدينية أغرقوها في التأويل الفكري والعقلاني. ولأن التجربتين أعلاه لاعقلانيتين فإن اللغة تعجز عن نقل لا عقلانيّتها؛ لأن ما حدث في التجربة هو "شعور لا يمكن إعطاؤه حقه من الكلمات"؛ لذلك فالتجربة نُقلت إلينا بلغة تقريبية تمتاح من الخيال، وتتمثل في الصور البصرية كالهبوط والسيولة والشدّ إلى أعلى والتقارب والتلاقي والتّطاير. وكما يبدو فإن هناك حالة فراغ يسقط فيها الإنسان، حيث لا يدري. وكما يقول السواح: "كم مضى عليّ في تلك الحالة؟"؛ حالة لا تعود فيها الأشياء كما هي؛ فحين يخرج الإنسان من ذلك الفراغ تستعيد الأشياء "صورتها من جديد مستجمعة شتاتها من هيولي نشأتها". ولا بد من أن تلفت نظرنا كلمة "هيولي"؛ لأننا حين نفرق بين هيولي الأشياء وبين صورتها؛ أعني تركيبها فسيبدو لنا الهيولي جوهراً أساسياً لا طابع له، لكن عنده إمكان تلقي الصورة؛ فالصورة محايثة، وصور الأشياء لا توجد إلا من حيث هي صورة لهذا الشيء أو ذاك. هناك هيولي اتخذ صورته في قبة السماء كما نعرفها؛ وهي صورة غير سيالة، لا تشد الإنسان ولا تهبط به، ولا تتفتّت. لكن في التجربة اتخذ الهيولي صورة غير مألوفة لنا في حياتنا اليومية. وأكثر من ذلك لا بد من أن تثير انتباهنا هذه العبارة: "تجمعت أجزائي، وعدت سيرتي الأولى"؛ فهناك سيرة أولى هو الإنسان كما نعرفه، لكن في تجربة كهذه هناك سيرة ثانية تفسرها حالته في التجربة الثانية حيث "رأيتني على صليب تتطاول أذرعه نحو اللانهائيات الأربع وأنا في نقطة التقاطع". فبعد هذه الحالة الغريبة عن حياته التي يعرفها عاد إلى حياته التي يعرفها. إن العودة إلى السيرة الأولى ضرورية لحكي التجربة، وتعبر عن الانتقال بين وجهة نظر داخلية إلى وجهة نظر خارجية؛ أعني من حياة التجربة الدينية إلى حياة التجربة اليومية، ووجود نهاية كهذه يعني الانتقال من منظومة إدراك إلى منظومة إدراك أخرى. *** سمى السواح التجربتين بـ "الوجود الحق"، وهي تسمية تفترض ضمناً وجوداً مزيّفاً. وعلى رغم أن السواح لم يكن يحلم إلا أن تجربتيه حين سماهما بالوجود الحق أصبحتا من وجهة نظري شبيهة بتجربة ذلك الذي افترض نيتشه بأنه حلم فرأى عالماً آخر فافترض أنه عالم الآخرة. غير أن الفرق يكمن في أن تجربتي السواح دفعته إلى أن يكون باحثاً في طبيعة التجربة الدينية. يقول: وبمرور الأيام، كان التساؤل الذي حملني من حصيرة رواق الجامع إلى سجادة الصلاة نحن شجرة التفاح، ينمو ويتحول من تساؤل عرضي إلى سؤال أساسي: هل تجربة ما سمَّيته بالوجود الحق تجربة دينية؟ فإذا كانت دينية، فما الفرق بينها وبين ما تحققه الصلاة المعتادة؟ لماذا يلجأ بعضهم إلى طقس مؤسس ومتعارف عليه، وبعض آخر إلى طقس خارج المألوف. على هذا النحو أصدر السواح كتابه "دين الإنسان»، بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني. يمكن أن أتفهم هاتين التجربتين في ضوء فكرة التسامي الفرويدية -مع بعض التعديل الجوهري اللازم والضروري لتواكب هذه التجربة الغريبة –أي أن التجربتين هما ما دفعاه إلى الاستقصاء الفكري لتجربة كهذه. لقد كان بإمكان كمية خارقة من القوة في تجربة كهذه ألا تفقد اندفاعها الأساسي، وألا تغيّر هدفها ولا موضوعها عندها يمكن أن تظهر تجربة دينية أخرى لا مجال لذكرها الآن، وربما يكون لها مجال في مقالة مقبلة.