لا تبدو ترجمات السياب صادرة، بدءا، من شغف بالترجمة، أو من وعي بدورها في عملية التحديث الشعري، وإنما من تطلُّب معيشيّ بالدرجة الأولى. لم يترجم السياب هذه القصائد لأنه يرغب في تعميق مجرى التحديث الشعري الهادر في تلك الآونة ولكنه ترجمها -على الأغلب- لـ"ضرورات" من خارج معركة التحديث التي كان يخوضها من خلال قصائده وانحيازه إلى "منبر" ضد آخر (مجلة شعر، مقابل مجلة الآداب). كان سيعني شيئا محددا لو أن السياب ترجم عملا كاملا لإليوت أو للوركا أو لنيرودا، على ما بين هؤلاء الشعراء من اختلافات فكرية وجمالية، لكنه لم يفعل، واكتفى بأن ترك في مدوّنة ترجماته قصيدة واحدة لكل واحد منهم.. وحتى هذه القصائد المنفردة، لم يتم اختيارها لسبب إبداعي خاص. قد تكون سهولتها أو قصرها سبب ترجمتها ليس إلا. بهذا المعنى فإن ترجمات السياب ليست مهمة، فهي بهذا الحجم الضئيل (ست عشرة قصيدة) والتباعد الشاسع بين أسماء شعرائها وتجاربهم (من الماركسي نيرودا إلى المحافظ إليوت) لم تترك أثرا، إلى درجة أننا نكاد لا نتذكر السياب مترجما شعريا، ولا نعرف أنه نشر هذه الترجمات في كتاب، ولكن المهم في ترجمات السياب هو ما تستبطنه وليس ما تظهره. " برزت في العربية، ربما في عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات للمرة الأولى، ظاهرة الشاعر المترجِم الذي لا يكتفي بكتابة الشعر بل يترجم ما يعزِّز خياره الإبداعي أو، أضعف الإيمان، ما يروق له من شعر "الآخر" " ليست أسماء الشعراء ولا مستوى الترجمة ما يهمني هنا، ولا حتى الأبيات التي "سرقها" السياب من ترجماته وضمها إلى قصائده (حسب تعقّبات حسن توفيق) بل وعي السياب بأهمية العلاقة بين مشروع التحديث الشعري العربي من جهة و"الآخر".. و"الآخر" الغربي على نحو خاص، من جهة أخرى. ما أقوله هنا ليس جديدا، فلا بدّ أن هناك من سبقنيإلى القول إن حداثة الشعر العربي لم تكن ممكنة من دون تلك العلاقة مع "الآخر".. أي بوضوح: من دون عملية الترجمة، بما هي اطلاع على منجز ونقل له في آن. ولقد رأينا انكباب عدد متزايد من الشعراء العرب على ترجمة تجارب شعرية غربية في عقود الخمسينيات والستينيات، وصولا إلى السبعينيات. في هذه العقود الثلاثة برزت في العربية، ربما للمرة الأولى، ظاهرة الشاعر المترجِم، الذي لا يكتفي بكتابة الشعر، بل يترجم ما يعزِّز خياره الإبداعي أو أضعف الإيمان، ما يروق له من شعر "الآخر". يكفيأن نتذكر هنا: أدونيس، وتوفيق صايغ، وجبرا إبراهيم جبرا، ويوسف الخال، وسلمى الخضراء الجيوسي، وعصام محفوظ، وفؤاد رفقة. ومن الأجيال اللاحقة: سركون بولص، وعبد القادر الجنابي، ومحمد بنيس، وبسام حجار، وعبده وازن، ورفعت سلام.. أورد هذه الأسماء على سبيل المثال لا الحصر، إذ إن هناك كثيرا غيرها. كم كان السياب دقيقا في الترجمة؟ إلى أي حد كان مبدعا فيها؟ بل هل كان يعرف الإنجليزية على النحو الذي تعكسه بعضحواراته بخصوص تأثراته العربية والأجنبية؟ ليست هذه هي أسئلتي اليوم، فلم أكن أتوقع ترجمة فارقة بقلم السياب، وإلا لظلت هذه الترجمة في التداول طويلا، ولم تختف بعد قليل من نشرها في كتاب. وهذه الترجمات تبدو عديمة النفع اليوم، اللهم إلا من زاوية الدرس والمقارنة. فهي فاقدة، تقريبا، لأي إشعاع أو نبض حي. مقدمة حسن توفيق التي تتضمن مقتبسات من أقوال السياب حول بعض الاتجاهات الشعرية الغربية وأعلامها، ترينا إلى أي حدٍّ شغل شعر "الآخر" ذهن لحظتنا الريادية الشعرية، وإلى أي حد صار التحديث مقترنا بالاطلاع عليه والتأثر به. قد تكون هذه هي المرة الأولى التي يقرُّ فيها العرب بأنهم لم يعودوا مكتفين شعريا وأنّ بهم حاجةإلى معرفة شعر الألسن الأخرى التي لم تعد، بهذا المعنى، عجماء!