كان المفكّر - الفيلسوف المصري الراحل زكي نجيب محمود - الذي لم يُقرأ كما ينبغي بكل أسف - يؤكد باستمرار أن دائرة السياسة متمايزة بطبيعتها عن دائرة الدين، مفارقة لها. وأن أي خلط بين الدائرتين مؤداه الكوارث على مستوى المجتمع والأفراد. هذا ما ذهب إليه محمود قبل نحو نصف قرن. فحقائق السياسي هي بالنسبة إليه، وإلى الآخرين، نسبية يمكن التحقّق منها بموجب معيار التحقّق الذي يُعد المحور الذي تتمفصل حوله الوضعية المنطقية، التي هي في الأساس منهج فلسفي التزمه محمود، واعتمده أداة في فهم مختلف مسائل التراث والمعاصرة وقضايانا المجتمعية المختلفة. فالسياسي حينما يعرض حقائقه، أو ينطلق منها، يقرّ بتغيّرها تبعاً للزمان والمكان، وبناء على موقعها البنيوي، والوظيفة أو الوظائف التي تؤديها. أما حقائق صاحب الدين، التي هي في واقع الأمر قناعات إيمانية، فلا تخضع لمعايير المفاهيم العقلية الوضعية، بل يتم التوصّل إليها بناء على معطيات إيمانية تخص صاحبها من دون الآخرين. وهي تظل تجربة فردية وجدانية، تتمرّد على سائر الجهود الرامية إلى إعطائها بعداً معرفياً يمكن اكتسابه أو تعليمه أو قياسه. وأذكر بهذه المناسبة حديثاً طريفاً دار بيني وبين رجل دين فاضل، رحمه الله، قبل عقود، وكان محوره عيد الفصح. فقد كان تعليقه العفوي، بعدما علم أن العطلة الرسمية التي كانت في ذلك اليوم هي بمناسبة عيد الفصح، هو التالي: رواية النصارى مجانبة للعقل، فكيف يمكننا أن نقبل أن السيد المسيح عليه السلام قد صُلب، ومات، ليقوم في اليوم الثالث، ويصعد إلى السماء. وكان جوابي، العفوي أيضاً، هو التالي: المسألة هي من المسائل الإيمانية في نهاية المطاف. فروايتنا حول الموضوع ذاته هي أيضاً مما لا يقبل العقل بها خارج نطاق الإيمان. فكّر الشيخ الجليل قليلاً، وابتسم قائلاً: أوافقك الرأي. فالمسألة في النهاية إيمانية. هذا ما كنّا نتناقش فيه بأريحية واحترام متبادل قبل عقود. أما اليوم فالرؤوس تفصل عن الأجساد لمجرد الشبهة، أو بناء على فتوى ما أنزل بها الله من سلطان يخترعها جاهل نُصِّب فقيهاً مهمته تحريم ما حلّله الله عزّ وجل. ظاهرة الملك - الإله شهدها العديد من المجتمعات، ومنها مصر الفرعونية. كما شهدت بلاد ما بين النهرين وسورية ظاهرة الملك - الكاهن بصيغها المختلفة. ويبدو أن ذلك كان يدخل في عداد الأدوات التي تستخدمها المؤسسة السلطوية لتعزيز نفوذها، وبسط هيمنتها على الدولة والمجتمع. وعرفت المجتمعات الغربية هي الأخرى ظواهر كهذه، لكنها تمكّنت لاحقاً من تجاوزها، والقطع معها، بعد عذابات وآلام قاسية، أصبحت في يومنا الراهن جزءاً من الذكريات السوداوية للماضي. وهناك مشهد رمزي في مدينة ابسالا (وكانت عاصمة السويد قبل أكثر من خمسمائة عام) محوره مجموعة مدافع قديمة موجهة من القصر الملكي نحو الكاتدرائية الرئيسة في السويد، التابعة للكنيسة الوطنية السويدية. ومن التفسيرات التي تقدم للمشهد أن الملك أراد بخطوته تلك أن يفهم رجال الدين أن دورهم مقتصر على الكنيسة من دون أي سعي للتمدد نحو القصر. والسويد اليوم دولة تعتز بنظامها العَلماني الذي يحترم سائر الأديان، ويمكّن أتباع كل دين من ممارسة عباداتهم وطقوسهم بكل حرية، ومن دون أي اعتداء على معتنقي وأتباع الديانات الأخرى. أما السياسة، بموجب النظام المعني هنا، فلها قواعدها وأهلها وأنظمتها التي تحترم الجميع، وتفسح المجال أمامهم من دون تمييز أو إبعاد أو فرض امتياز لهذه الفئة أو تلك. أما مجتمعاتنا فما زالت تعيش أجواء الظاهرتين المشار إليهما، وذلك بفعل عمليات الاستلهام الجارية سواء من أنظمة الحكم، أو من الحركات التي تحاول فرض نفسها دول أمر واقع. فالنظام المجتمعي عندنا يستنسخ ذاته، وغالباً ما تمثّل النسخ المحدثة نكوصاً وتراجعاً، قياساً إلى ما كانت عليه الحال في مجتمعاتنا قبل عقود. وتفسير ذلك أن الأنظمة الحالية، ومعارضاتها، لم تتمكّن من إنجاز المطلوب الذي كان يمكن البناء عليه وتنميته. وقد عاشت مع معارضاتها حالة خواء وارتباك بعد انهيار الأيديولوجيات التي كانت تلتحف بها، أو تتمترس خلفها. ولتجاوز واقع الإخفاقات المتتالية والمفاسد المتراكمة، انطلق فريق من المعارضين بنَفَس انتقامي تدميري، ليستلهم من التراث أقسى فصوله، وأكثر أحداثه عنفاً ودموية، اعتقاداً منهم، أو تظاهراً بالاعتقاد، بأن ذلك يجسّد الحل الأمثل للقطع مع عوامل الهزائم المستدامة. والأنظمة هي الأخرى، وجدت من جانبها، بناء على هشاشة مواقعها، وضحالة القوى الإقناعية لحججها، أن التناغم مع الأطروحات الإسلاموية ربما يمكّنها من امتلاك القوة التي تحتاجها نتيجة ضعفها البنيوي الشامل، وندرة، إن لم نقل انعدام، ما كان يمكن أن تتباهى به، ويجسّد لها مسنداً تتكئ عليه. دورة العنف التي تطحن مجتمعاتنا ستستمر وتقوى طالما الحلول المعتمدة تغدو وقوداً جديداً يمكّن من استمرارية الدورة المعنية بكل أبعادها التدميرية. ومهما فعلنا لن نتمكّن من سدّ الطريق على نزعات التطرّف الديني ونزوع أصحابها للإقدام على كل أعمال القتل والتدمير، لأن كل ذلك يُسوّغ ويُشرعن، وفق منظورهم، بناء على فتاوى تُستنبط من النصوص الحمّالة للأوجه. وقد أثبتت التجارب والندوات والمؤتمرات الكثيرة، وسائر أساليب المجاملة والكياسة، ومحاولات التلطيف والاستيعاب، أن المشكلات الأساسية في ميدان الفكر الديني المتطرّف ما زالت على حالها، بل أصحبت هذه المشكلات أكثر تعقيداً وقدرة على التأثير والتمظهر في هيئة جهود إرهابية تهدد كل شيء. ولهذا، نرى ضرورة اعتماد حلول جذرية تلتزم أسلوب الفصل المنهجي الدستوري بين مجالين تقتضي طبيعتاهما أن يكونا منفصلين، منعاً لتفجرات مجتمعية تعود نتائجها الكارثية على الجميع، خصوصاً في مجتمعاتنا المتعددة بأديانها ومذاهبها وطوائفها وقومياتها. نقول هذا ونعلم جيداً أن المتضررين سيكونون بالمرصاد لهذا التوجه، كما سينضم إليهم قسم كبير من أصحاب النوايا الطيبة. ولكنّنا ما لم نقدم على خطوات غير معهودة في وضعيتنا الاستثنائية، فلن نتمكّن من الخروج من النفق المرعب. وما نحتاج إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى يتجسّد في ثلاثة أمور لا استغناء عنها: الحكمة والصبر والجرأة، لإعادة النظر في أولوياتنا. فنحن بحاجة ماسة لإعطاء الأولوية إلى استراتيجية تنقذ مجتمعاتنا من كل هذا التخبّط والانهيارات الراهنة والقادمة. والأولوية المعنية هنا تتجسد في توافق إقليمي على اعتماد نظام مدني للحكم، يفصل بصورة واضحة بين عالمي السياسة والدين، لمصلحة مجتمعاتنا، واحتراماً لمعتقدات مواطنينا بكل تنوعاتها. أما أن تُنفق الأموال، وتُستنزف الجهود على مؤتمرات مكافحة الإرهاب، وحوار الأديان، والإسلام المعتدل، ومخاطر الفكر التكفيري، فكل ذلك على أهميته، لا يخرج عن إطار المعالجة العرضية التخديرية التي تتجاهل أساس المرض الذي لم يخضع حتى الآن للمعالجة الحيوية المطلوبة.