مخلوق عجيب، وأداة مدهشة، ومعيار مهم، وقاضٍ منصف، وناصح مشفق، وصديق صادق، وعنصر محايد, الميزان الأداة التي تتابعت الشرائع والطبائع على التحاكم إليها وتعظيم شأنها, والاحتجاج لها وبها؛ بل كان مؤشراً واضحاً على نزاهة الأفراد والجماعات، وشرطاً مهماً في الحضارة والرقيّ، وضمانة لعافية الأمم والشعوب. وقد لفت نظري وأنا أتأمل مطلع سورة الرحمن، ذلك التكرار في الامتنان بنعمة الميزان بجانب نِعَم كثيرة وعظيمة لم تحظَ بمثل هذا التركيز {والسماء رفعها ووضع الميزان, ألا تطغوا في الميزان, وأقيموا الوزن بالقسط ولا تُخسروا الميزان}؛ فتكرر مفردته أربع مرات في أربع آيات، وهو ما لم يحدث مع بقية النعم العظيمة الأخرى التي ذُكرت في ذات السياق؛ مما يلفت نظر المتأمل إلى معنى يختص به دون غيره. والعجيب في هذا المخلوق أن له أشكالاً متنوعة واستخدامات تفوق الحصر، ومجالات لا نهاية لها مادية ومعنوية وفكرية, والأعجب أنها مترابطة ومتكاملة بشكل واضح أو خفي؛ فللمنطق والعقل ميزان، وللمواد الصلبة والسائلة ميزان، ولأنواع الأمراض موازين، وللمعاملات التجارية ميزان، وللعلاقات الإنسانية ميزان, وللبناء موازينه، وللهدم موازينه, والحكم بين المتنافسين بميزان، والفصل بين المتخاصمين بميزان، وكشف المتهاونين بميزان، وفضح المتلاعبين والغشاشين بالميزان.. حتى الشِّعر لا يستقيم إلا بميزان؛ بل كلما تعقدت الصناعة وزادت المسؤولية تكاثرت الموازين وترابطت؛ فميزان للضغط، وميزان للحرارة، وميزان للكثافة، وميزان للوقود, وربما احتاجت الموازين إلى متخصصين مَهَرة وخبراء متميزين حتى يُحسنوا فهمها ويحفظوا توازنها، ويبنوا على نتائجها. الميزان ليس أداة مجردة؛ بل هو قيمة عالية وثقافة راسخة وتوجّه واضح, الميزان عقيدة ودين ومبدأ ومنهج, يختار العدل والإنصاف، ويسوّي في حكمه بين جميع الأطراف, يعبر عن المصداقية، ويعلن التجرد، ويقدم الحقائق على المشاعر. لذا جاء الأنبياء بالدعوة إليه، وأنزله الله تعالى معهم ليحتكم الناس لديه, كما قال سبحانه: {الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان} (الشورى: ١٧)؛ فالله الذي أنزل القرآن وسائر الكتب المنزّلة بالصدق، وأنزل الميزان وهو العدل؛ ليحكم بين الناس بالإنصاف, ومعنى أنزل الميزان، هو إلهامه للخلق أن يعلّموه ويعملوا به. لقد علّم الأنبياء أن سوء أحوال الناس وانحراف سلوكهم وفساد تصورهم كان بسبب إهمالهم وإخلالهم بالميزان في دينهم ودنياهم؛ فخاطبوهم بكل صدق ونصحوهم بكل إخلاص، وبيّنوا لهم عاقبة إهمال الميزان؛ {والى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره, ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط, ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين} (هود: ٨٤). فعاقبة إهمال الميزان انتشار الفساد في الأرض، وزوال النعمة في الدنيا، والعذاب وسوء العاقبة في الآخرة. والميزان ليس آلة الوزن فقط، التي تعتني بتقدير ثِقَلِ الأجسام؛ بل للميزان ارتباط كبير بالمعاني السامية التي لا يمكن أن تكتمل حضارة أو تُبنى أمة أو تبقى دولة بدونها, وله دلالات شتى؛ فالميزان دعوة للتوازن، التوازن بين الروح والجسد بين الحقوق والواجبات بين جلب المصالح وتعظيمها ودرء المفاسد وتحجيمها، بين المكاسب المادية والمكاسب المعنوية, بين الجد والترفيه، بين الأسرة والعمل, حيثما يكون التوازن تترسخ السعادة ويستمر العطاء وتنتشر الطمأنينة وتستقر النفوس والمجتمعات؛ فإذا اختل التوازن وحل محله الغلو أو الإجحاف، والمبالغة أو الاستهتار؛ فإن التيه هو الغالب، والتخبط هو المسيطر، والتناقض هو الفاضح. الميزان يؤكد على أهمية العدالة ونشر المساواة وإتاحة الفرصة لكل القادرين، وهو ما يحقق الرضا العام، ويبشر بمستقبل واعد، ويحمل على التنافس الشريف، ويدعو للإبداع واستمرار العطاء وصدق الانتماء وقلة الفرص أمام المخربين والمغرضين، وإهماله يدعو لخلاف ذلك كله، وينزع الثقة من جميع الأطراف، ويربي على الريبة، ويؤصل الفساد، ويبرر الانحراف، ويسوّغ الاعتداء على الحقوق. الميزان يدل على المعيارية، وانتشار الوعي، وقلة المزاجية، واحترام الحجة، وغلبة البرهان، والرغبة الصادقة في معرفة الحقائق، والتخلي عن التعصب ومنطقية الطرح، واحترام العقول، والتخلي عن اعتقاد العصمة أو أي تشويش على الحقيقة أو تقديم للخلق على الحق. الميزان يدعو للاتزان والبعد عن الانفعال، وترك الاحتكام إلى ردود الأفعال، والتلاعب بالعواطف أو الاستسلام لها أو التهاون فيها، لا يغرق في التفاؤل ولا يستسلم لليأس ولا تطغى عليه الوقائع وتُفقده حسن التأمل في التاريخ والنظر في العواقب والاستفادة من التجارب، والإعراض عنه يجعل الأمة في مهب الريح فتحتكم إلى السفهاء وتعرض عن الحكماء وتتعجل النتائج وتهمل الأسباب وتسخر من التدرج وتستخف بالمبادئ ولا تؤمن بالصبر والحلم، ولا تتقبل التواضع والتؤدة. الميزان يؤكد على الدقة، ويحذّر من الاستهتار، ويفرّق بين المتشابهات، ويحدد المراحل، ويوجه التصرفات، ويُبَيّن عاقبة التفريط. إن أسوأ ما في الموازين أن تُستخدم كأداة للظلم وحجة إلى الباطل، وغطاء للخديعة والغش؛ لذا نُهِيَ عن تطفيف المكاييل، والغش في الموازين، وتوظيفها لخدمة الأغراض والأطماع الشخصية؛ فهي غاية اللؤم والخسة والدناءة التي تستحق الويل والثبور؛ {ويل للمطففين, الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون, وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون} (المطففين: ١ ٦). إن السؤال الذي يطرح نفسه دوماً ونحن نعاني ما نعانيه هو: أين الميزان؟ - سؤال ينبغي أن نسارع في طرحه عندما نشاهد أي خلل أو نلاحظ أي فساد أو نقف على أية صورة من صور الغش. - سؤال يفرض نفسه عند انتشار المحسوبية والواسطة غير الشرعية وتنحية أصحاب المؤهلات والخبرات وتقديم الشفاعات والمحسوبيات. - سؤال يجب أن نجيب عليه مع كل صورة من صور الغلوّ في الدين والتطاول على أعراض وأغراض المعصومين، والمسارعة إلى الفتنة، والإعراض عن الحكمة، واستعجال النتائج. - سؤال يفرض نفسه مع انتشار الانفعال وقلق النفوس واختلال البيوت وانتشار الطلاق. - سؤال لا يلتفت إليه أحد مع انتشار الإشاعة والتسابق على نشر الأكاذيب، واعتماد الظنون، وتبادل الأساطير، وادعاء المعرفة، وكثرة الوسائل وسهولة النشر. - سؤال لا يقبله الكثير ممن يأخذ بالظِّنة، ويحاسب على النوايا، ويعسف الأدلة، وينتقي ما يشتهي من الأحداث، ويكيل بمكيالين, ويغلّب الأعراف، ويغفل عن السياق، ويدّعي التجرد في البحث. - أين الميزان؟ هو السؤال الغائب، وهو الحل الدائم، وهو العلاج الناجع، وهو البلسم الشافي، وهو النور الباهر؛ فاستحضروه واحتكموا إليه وأقبلوا عليه، واقبلوا به؛ فإنكم مُقبلون غداً على موازين لا تكذب ولا تطيش ولا تطفف؛ بل تحكم بالعدل، وموزونون بها {ونضع الموزاين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} (الأنبياء: ٤٧). والحمد لله رب العالمين.