عادت البنوك والمؤسسات المالية في العالم إلى منح القروض لذوي الملاءات المالية الضعيفة. هذه العودة التي تشهد أوسع نشاطاتها في الأسواق الأميركية تنذر بخطر كبير على استقرار الأسواق العالمية والمحلية، لأنها تضعنا في حالة مشابهة لما كنا عليه قبل الأزمة المالية الأخيرة. وإذا كانت البنوك تلجأ هذه المرة الى رفع مستوى الضمانات على قروضها تجنباً لفقدان السيولة أو الإفلاس على غرار ما جرى في عامي 2007 و2008، فهذه الحالة تعتبر بحد ذاتها أزمة قائمة بالنسبة للمقترضين من ذوي الدخل المحدود والغطاء المالي الضعيف، كونها تضعهم تحت وطأة القروض الاستهلاكية التي تتجاوز قدرتهم على الوفاء بها دون التسبب بأزمة حقيقية في أنماطهم الحياتية وخططهم المستقبلية. وانتهجت المؤسسات المالية المقرضة ذات السيناريو السابق بتوريق القروض، أي تحويلها الى سندات، عن طريق تكوين حزم مختلفة الصفات من مشتقات القروض، تضم كل واحدة منها مئات بل آلاف القروض التي منحتها المصارف، ومن ثم بيعها للمستثمرين بأسعار تتحدد حسب حجم الضمانات على القروض. فكلما ضعفت قيمة الضمان على القرض زادت المخاطرة وبالتالي انخفض سعر الحزمة، أو العكس تماماً بالنسبة للقروض ذات الضمانات القوية فنسبة المخاطرة فيها أقل وأسعارها أقل أيضا. ولا زلنا نذكر أنه عندما انهارت أسواق العقارات في الولايات المتحدة عام 2008، خسر هؤلاء المستثمرون ثروات تقدر بمئات المليارات من الدولارات، واختفت عن الساحة كبرى بيوت المال: فمصرف ليمان برذارز أعلن إفلاسه ومصرف ميريل لينش تم بيعه، وغولدمان ساكس ومورغان ستانلي تحولا إلى مصرفين قابضين متواضعين، مما دفع قيادات المصارف التجارية ومديري الأصول في هذه المصارف، إلى الإعلان بأنهم لن يقتربوا مرة أخرى من المقترضين ذوي المخاطر العالية، ولن يكرروا الأخطاء التي شكلت فصلاً أسود في تاريخ الصناعة المالية العالمية. ولكن يبدو أن عالم المال سريع النسيان، أو أنه يتمتع بذاكرة لحظية تفتقد للبعد التاريخي النقدي، فالإحصائيات المتعلقة بوقائع هذه القروض التي بدأت تجتاح منظومة أسواق المال العالمية تفيد بأن نسبة 34% ممن شملتهم القروض هذه المرة هم من الذين عجزوا عن تسديد ديونهم إبان الأزمة السابقة، مما يفتح الباب على العديد من الأسئلة التي تبحث عن إجابات حول مصير هذه الفئة، وحول قدرة البنوك على تحقيق أرباح بدون اللجوء الى المخاطر العالية والإخلال بالتوازن القائم في علاقات السوق. ويبقى السؤال الأهم: كيف استطاعت البنوك تسويق هذه القروض للمستهلكين مرة أخرى؟ لعل المدخل الصحيح للإجابة على هذه التساؤلات، وخصوصاً الأخير منها، هو ما قرأته منذ مدة حول قيام بعض الشركات العالمية بالتعاون مع البنوك إلى إجراء دراسات مكثفة عن نفسيات المستهلكين كي يتمكنوا من صياغة الإعلان المناسب لاستهداف مكامن الضعف النفسي لدى البشر وتشجيعهم على المزيد من الاستهلاك. وبما أن ذوي الدخل المحدود غير قادرين على التجاوب مع هذه الإعلانات، تقوم البنوك بفتح المجال للاقتراض لردم الهوة بين ما يصنعه الإعلان والثقافات الاستهلاكية السائدة وبين القدرة والإمكانيات الحقيقية للمستهلكين. من ناحية أخرى، تناقش هذه الدراسات كيفية توسيع الفجوة بين ذوي المداخيل العالية وما تطرحه الأسواق من سلع وأنماط حياة حتى يلجأ هؤلاء أيضاً الى الاقتراض. وتستفيد هذه الدراسات من حقيقة أنه كلما زاد دخل الفرد كثرت قروضه وديونه، لذلك تبقى هذه الفئة هدفاً سهلاً وصيداً ثميناً لواضعي هذه الدراسات. وتتعمد هذه الدراسات تشويه مفاهيم سامية وأصيلة مثل حرية الاختيار، ومن ثم تنميطها وتعميمها لتتحول مع الوقت الى ثقافة سائدة توجه السلوك البشري نحو ما يريده السوق وليس ما يريده البشر أنفسهم. إن المستهلك يعتقد أنه حر في الاختيار بين ما يُعرض عليه في مجتمع الاستهلاك، كما يعتقد انه يسعى إلى الاختلاف والتميز عن الآخرين بالانعتاق من القوالب الاجتماعية والثقافية القديمة التي تكبل اختياراته. هو يشعر أنه غير مدفوع من أحد وغير مجبر على شيء، فذلك نابع من داخله وليس من خلال التبعية لما هو سائد. هذه الحال- حسب رأيه الحر- هي العلامة الأصيلة للتفرد. لكن الحقيقة مختلفة تماماً، فحريته هذه وهمية وسعيه نحو الاختلاف زائف وليس في الإطار الصحيح، لأن تعددية موضوعات الاستهلاك، كما تعددية المواقف والآراء حول طبيعة السوق وما يقدمه من منتجات، خصوصاً القروض ومشتقاتها من بطاقات إئتمان وسحب على المكشوف، وغيرها من أدوات التوريط المالي، ليست إلا نتاج البيئة التي ينتمي اليها فكرياً وعاطفياً. حقيقة الأمر أن المستهلك لا يسعى إلا إلى المزيد من التبعية والغرق أكثر في المفاهيم التي تفرضها أنماط الحياة الاستهلاكية السائدة في محيطه. إنه انسياق الفرد نحو الأسلوب الوحيد الذي يستطيع أن يعيش به في عالم الاستهلاك وهو المزيد من الاستهلاك، فالسعي الى الامتلاء وإشباع الرغبة حسب ما تقتضيه هذه الدراسات ليس سوى فتح مساحات جديدة من الفراغ والشعور بالنقص لأن مقاييس الاكتفاء والتميز أصبحت بمدى امتلاك كل ما هو مطروح في الأسواق وهذا ما لا يمكن تحقيقه أبداً، لا من أصحاب الدخل المحدود ولا من أصحاب الدخل العالي. من المستهجن أن تستنزف هذه المؤسسات أموالها الطائلة على دراسات كهذه بدل توظيفها في دراسات علمية لحالة السوق وما تحتاجه من منتجات أساسية للحفاظ على توازنات عمليات النمو والحد من ارتفاع الأسعار وحماية الأسواق من التضخم أو التخمة ببعض المنتجات على حساب أخرى. ومن المستهجن أكثر أن تستخدم هذه المؤسسات في سبيل إقناع الناس باللجوء الى القروض الاستهلاكية، مقولات غير دقيقة حول معدلات نمو مرتقبة وازدهار محتمل ستنعم به الأسواق، مما سيرفع من مداخيلهم الفردية وقدرتهم على سداد القروض، وهم بذلك يتناسون حقيقة كبرى وهي أن الأزمات لا تحدث إلا في قمة الطفرة المالية وفي عز الازدهار والبحبوحة كما أثبتت التجربة خلال الأزمة السابقة. خطورة هذه الدراسات التي تتسلح بدعم لا محدود من قبل مؤسسات مالية عالمية ضخمة، أنها كانت منذ أمد قريب تعمل على جعل الاستهلاك مدفوعاً بالرغبة في التفرد وليس في إشباع الحاجات، وبعد أن حققت هدفها هذا انتقلت الى توسيع حدود الحاجات البشرية التي تدعي أنها تتنامى طبيعياً لمواكبة متطلبات العصر، وبالتالي يصبح كل ما هو دون هذا النمط "العصري" متخلفاً وفقيراً ينام ويصحو على عقدة النقص والقصور تجاه نفسه وعائلته، فلا يبقى أمامه لمعالجة هذه العقدة سوى اللجوء الى البنوك من أجل الحصول على القروض الاستهلاكية. إن فهم هذا المخطط يشكل المدخل الأساسي لعلاج الأزمة ومن ثم الخروج منها، فلا شيء يستطيع الوقوف أمام الاجتياح المخيف للثقافات الضارة ومن ثم تطوير القدرة على نفيها، أكثر من ثقافة مضادة مبنية على المعرفة والثقة بالذات وفهم الجوهر الأصيل لمهمة الإنسان على وجه هذه الأرض.