القاهرة، مصر (CNN) -- نيودلهي، حيث دعاني المجلس الهندي للتعاون الثقافي - وهو فرع من وزارة الخارجية الهندية - لزيارة أربع مدن: بومباي، وأحمدآباد، وجايبور، والعاصمة نيودلهي، ثم المشاركة في مؤتمر اقتصادي دولي حول تحديات التنمية الاقتصادية. موضوع الزيارة هو التعرف على تجارب المؤسسات المالية والأهلية الرائدة في دعم مشاركة الفقراء في النشاط الاقتصادي والدفاع عن مصالحهم بشكل جماعي بما يساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية. وللهند في هذا الشأن تجربة ثرية كما أن لدينا في مصر حاجة للتعرف على تجارب الآخرين. تجربة الهند ثرية ليس لأنها نجحت في القضاء على الظلم الاجتماعي، بل لأن التحدي كان هائلا في أعقاب الاستقلال عام 1947. وبرغم المكاسب الكبرى التي حققتها ثورة المهاتما غاندي على الأوضاع الاجتماعية، والسياسات الاشتراكية لحزب المؤتمر لمدة 30 عاما، وما نص عليه الدستور الصادر عام 1949 كن حماية قانونية للعدالة والمساواة، وما تحقق من ارتفاع بمستويات التعليم والرعاية الصحية، إلا أن المجتمع الهندي ظل يعاني من تفاوت طبقي وطائفي كبير. ثم جاءت سياسات الانفتاح الاقتصادي في التسعينيات لترتفع بمعدلات النمو والتشغيل وبالثروة القومية إلى أفق جديدة، وتدفع بجيل شاب من أبناء الطبقة الوسطي التي استفادت من ثورة غاندي ونهرو الاجتماعية لينافس عالميا في الصناعة والخدمات والعلوم وتكنولوجيا المعلومات، وتدفع معه ايضا بطبقة من أصحاب المليارات يضرب بهم المثل عالميا في الثراء والبذخ، بينما بقيت غالبية سكان القرى والعشوائيات الحضرية تعاني من الفقر الشديد. وأخيرا فقد جاء الفوز الكاسح لحزب "بي.جي.بي" في انتخابات العام الماضي، وهو المعروف بسياساته الاقتصادية التحررية، ليرفع التوقعات بعودة الهند إلى مسار النمو الاقتصادي (يقدر صندوق النقد الدولي أن يصل إلى 6.5 ٪ العام القادم متجاوزا لأول مرة الصين) ولكن يجدد القلق من زيادة اتساع الهوة الاجتماعية. وهكذا، بينما تقف الهند اليوم على أعتاب عصر جديد، بعد أن أصبحت دولة صناعية كبرى، وقوة عسكرية نووية لا يستهان بها، وطرفا أساسيا في الاقتصاد والتجارة العالميين، إلا أن مشكلتها الاجتماعية تظل حاضرة وحقيقية. وقد اخترت إن أتعرض لتجربة الهند هنا من منظور مؤسسي، أي عن طريق مقارنة ثلاثة أشكال مؤسسية - جمعية خيرية، ومؤسسة تعاونية، وبنك مملوك للدولة - كلها تعمل داخل نظام الاقتصاد الحر ولكن تسعى من خلاله لتنظيم الفئات الأضعف وإدماجها في النشاط الاقتصادي من منظور جماعي يمنحها قوة تفاوضية وثقلا اقتصاديا، و يحد من تسلط الشركات الكبرى على الفرص والموارد و استئثارها بعوائد التنمية. الشكل المؤسسي الأول هو جمعية أهلية خيرية في مدينة "جايبور" عملها منذ أربعين عاما هو تركيب أقدام صناعية لمن تعرضوا لعمليات بتر سواء نتيجة حوادث عمل أو ألغام أو بسبب مرض السكري. ولكنها ليست جمعية خيرية عادية، بل تجربة اجتماعية فريدة من نوعها ونموذج للفارق بين العطف على الفقراء وبين تمكينهم من محاربة الفقر. فالجمعية نجحت في أن تبتكر تقنية بسيطة ورخيصة لصناعة الأطراف التعويضية (وهي معروفة عالميا ب"ساق جايبور") جعلها في العام الماضي وحده تركب ستين ألف ساقا صناعية، وهي تقدم كل خدماتها بالمجان. كما أنها تتيح لمن عليه الدور أن يجلس في ورشة التصنيع ليشاهد بنفسه صناعة الطرف التعويضي الذي يخصه. وبذلك نجحت خلال العشرين عاما الماضية في مساعدة ما يزيد على مليون ونصف شخص على استرداد قدرته على المشي والحركة، ومعها كرامته الانسانية وقدرته على العمل وكسب قوت حياته والانفاق على أسرته دون حاجة لمنحة أو عطف. نحن هنا إزاء جمعية خيرية تحولت واقعيا إلى حركة اجتماعية لا تعالج فقط، بل تعمل على تحرير المعاقين وإخراجهم من دائرة الفقر والاحتياج. والتجربة قابلة للتكرار ولا تحتاج لموارد كبيرة، وقد عبر مدير الجمعية عن استعداده لزيارة مصر وإقامة معسكر لمدة شهر لتركيب الأطراف الصناعية، بل والنظر في إقامة ورشة دائمة، إذا أبدت السلطات المصرية ترحيبا بذلك. أما الشكل الثاني فتقدمه واحدة من أهم وأنجح المؤسسات الاقتصادية في الهند، وهي المؤسسة التعاونية لمنتجي الألبان (المعروفة باسم "آمول")، وقد نشأت عام ١٩٤٦ في مدينة "أناند" قرب عاصمة الولاية "أحمدآباد"، لكي تساعد صغار الفلاحين والفلاحات على بيع فائض اللبن من منازلهم مقابل ثمن عادل ودون حاجة لبذل جهد كبير. وتطور الأمر عبر العقود الماضية حتى أصبح عدد أعضاء الجمعية اليوم أكثر من ثلاثة ملايين عضوا كلهم من صغار المنتجين وممن لا يزيد الفائض لديهم عن لتر لبن أو لترين يوميا، وهم لا يستفيدون فقط من بيع اللبن بل أيضا من ربح سنوي نتيجة المساهمة في المؤسسة التي أصبحت اليوم أكبر منتج للألبان والجبن والزبد وحتى الآيس كريم في الهند وتجاوز حجم مبيعاتها السنوية الثلاثة مليار دولار، أي ما يزيد على عشرين مليار جنيها مصريا. ونجاح هذه التجربة التعاونية كان وراءه أربعة أسباب: الإطار القانوني السليم، والوعي الاجتماعي بأهمية العمل التعاوني، ووجود تراث كبير من العمل الأهلي خاصة مع النساء وصغار المزارعين، ودعم الدولة للنشاط التعاوني واقتناعها به دون أن يكون ذلك مقابل ولاء سياسي أو ارتباط حزبي. وإذا كان الدستور المصري قد أعاد التأكيد على أهمية الملكية التعاونية، فإن الأمر لا يجب أن يتوقف عند هذا الحد، بل علينا أن نعيد مراجعة قوانين التعاون في مصر، ونفتح مجال تأسيسها بقدر من الحرية، ونمكنها من العمل وندعمها لما يمكن أن تؤدي إليه من تنظيم وتحسين فرص صغار الفلاحين والحرفيين والتجار، وتمكينهم من توحيد مواردهم وجهودهم. وأخيرا فإن النموذج الثالث لا ينتمي إلى عالم الجمعيات والتعاونيات، بل إلى عالم البنوك. في العاصمة المالية "بومباي" كان لقائي مع "بنك الصناعات الصغيرة" وهو بنك مملوك في أغلبيته للدولة ويتميّز بأنه متخصص في خدمة قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة - الصناعية والخدمية والتجارية - دون أن يفقد طبيعته كبنك خاضع بالكامل لرقابة البنك المركزي ولكافة متطلباته المالية والفنية. وهو يعمل على وصول الخدمات المالية لصغار المنتجين بما فيها تلقي الودائع والإقراض وتقسيط وتأجير الآلات والمعدات الزراعية والصناعية والتأمين على الحياة والممتلكات وتقديم الدعم الفني والتسويقي. وقد نجح البنك في أن يكون سندا لصغار المنتجين عن طريق ما يوفره لهم من التمويل وباقي الخدمات التي يحتاجونها، وكذلك بسبب تعامله معهم بوسائل وضمانات وسرعة تناسب طبيعة أعمالهم. وبالمناسبة فإن فكرة تخصيص بنك قطاع عام لخدمة المشروعات الصغيرة كانت مطروحة في مصر من قبل واقتربت من التطبيق بعد الثورة مباشرة ولم تكتمل، وقد يمكن الرجوع إليها وإعادة تقييمها. التجارب الثلاثة السابقة والتي اخترتها من بين عدد من الزيارات الأخرى للعديد من المؤسسات الشبيهة، لا شأن لها ببرامج الدولة للحماية الاجتماعية والممولة من الخزانة العامة. ولذلك فإن قيمتها أنها تعتمد على موارد محدودة، وعلى مشاركة الناس، وعلى تنظيم وتجميع موارد ومدخرات وجهود ملايين الفقراء وصغار المنتجين لكي تتحول إلى قوة مؤثرة اقتصاديا وقادرة على حماية مصالحهم، وهي بذلك تتجاوز مفهوم العدالة الاجتماعية القائم على العطف والإحسان إلى مفهوم الحق والقدرة على التغيير الجماعي. ولكن هذا النموذج له شروط ومتطلبات لا يمكن إغفالها، على رأسها توفير الإطار القانوني السليم، ومناخ يتيح الحرية والاستقلال في العمل دون تكبيل حكومي ودون توجس أو ملاحقة، واقتناع من الدولة بأن العمل الأهلي والتعاوني ركن أساسي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كانت الدولة والقطاع الخاص ضلعين أساسيين في التنمية الاقتصادية فإن الضلع الثالث الذي يكمل المثلث ويحقق توازنه هو المجتمع المدني بما فيه من جمعيات ونقابات ومؤسسات تعاونية، وطالما بقيت مقيدة ومحل ريبة وتضييق فلا مجال لإطلاق طاقات ملايين الراغبين في العمل والإنتاج ولا لتحقيق العدل الاجتماعي.