أبواب المجهول التي يفتحها الانهيار المحتمل لحوار الفصائل الليبية، لا تقود إلى غير التقسيم واستمرار سياسة التدمير. ما كان الخلاف في شأن تشكيل حكومة وحدة وطنية ليتطلب كل هذا العناء الذي بدد الكثير من فرص المصالحة، لولا أن القضية أكبر من مجرد الاتفاق على مرجعية سلطة تنفيذية يقبلها الجميع. الحكومة تجيء وتذهب، على قدر إرادة صناديق الاقتراع في البلدان الديموقراطية، وفي حالات ما قبل تكريس هذا التوجه تكون إطاراً قانونياً وسياسياً لترتيب أجواء التعبير عن الإرادة، بلا ضغوط أو إكراهات. بل إنه لدى حدوث أزمات حكومية وسياسية، هناك دائماً ألف وسيلة لاحتواء المواقف عبر التطبيع مع خيارات صناديق الاقتراع. مهما كانت حدة الأزمات فإنها لا تنسحب على مجالات السير الطبيعي لحياة الناس، خصوصاً لناحية ضمان الأمن وصدور الأحكام القضائية وعدم تعطيل الدراسة ودورات الحياة الاقتصادية والتجارية. المشكلة في خلافات الفصائل والقوى المتناحرة في ليبيا، أنها أكبر من الاختزال في فكرة إقامة سلطة حكومية. فقبل التصدع الراهن، عرفت البلاد تشكيل حكومات وانتخاب برلمانات عجزت جميعاً عن السيطرة على الأوضاع الميدانية، جراء وجود ميليشيات وتنظيمات لا تخضع لغير سلطة السلاح. ثم تطور الأمر إلى تقويض مفهوم الدولة الواحدة ذات المؤسسات التي يتعايش الكل تحت ظلالها، وأصبح عسيراً على أي سلطة أن تفرض الأمن، فيما توزعت المواقف وتباينت أكثر إزاء مفهوم وقف النار، خصوصاً في غضون وجود تنظيمات لا تخضع لأي قرار. إما أن يكون هناك ارتباط ما بدوائر الصراع، وفي هذه الحال من غير المستبعد أن يؤثر توجه الحوار والمصالحة في وضع حد للاقتتال وإلقاء السلاح، وإما أن يتبدد هذا الارتباط، كما في الظاهرة الإرهابية، فيزيد الأمر تعقيداً، لأنه بدل توجيه المعركة إلى أهداف محددة، يتم تعويض ذلك بصراع الفرقاء المتناحرين مع بعضهم، ما يفسح في المجال أمام التنظيمات الخارجة على القانون لاستغلال الفوضى والتشتت والتشرذم. والواقع أنه إذا لم تكن الحرب على الإرهاب مبرراً كافياً أمام أطراف الصراع الليبي يحفز على الاتفاق وتكريس ثقافة نسيان الأحقاد والمنافسات، فأي قضية يمكن أن تدفعهم إلى تسريع منطق الاتفاق لتطويق الحرائق المشتعلة في الأركان كافة. فالأطراف جميعها تتقاسم المسؤولية إزاء الوصول إلى المأزق الراهن، وليس سواها بقادر على إنهاء الأزمة. هل المتحاورون الليبيون يشكلون كل أطياف المشهد السياسي والاجتماعي الذي في إمكانه أن يتفق أو يختلف، أم أن جهات أخرى، ممن لا يجلسون إلى طاولة الحوار تملك نصيباً أوفر في التأثير في مسار المفاوضات؟ وأي دور محتمل لبلدان الجوار والشركاء الأوروبيين والأميركيين في الدفع باتجاه حلحلة الأزمة، أو ترك الحبل على الغارب؟ إلى الآن لا يزيد دور بعثة الأمم المتحدة عن تعبيد الطريق وجمع الفرقاء، من دون أن تتمكن من فرض صيغة ملزمة، كونها تقوم بدور وساطة يتطلب الكثير من الحياد وإتقان فن القفز على الألغام. غير أن التلويح بانتقادات قد تدفع إلى الخروج على النص، في الطبعة الوفاقية المرتقبة، ربما شكّل بداية تحول. ففي تجارب سابقة استندت جهود الأمم المتحدة إلى بنود إلزامية فرضت ما رأته حلولاً أقل ضرراً. ولعل اتفاق دايتون الشهير يمثل نوعاً من التهديد الذي قد تلجأ إليه الأمم المتحدة، في حال استعصاء إحراز التقدم في مساعي الحوار الدائر على مستويات عدة. أقرب إلى الفرقاء الليبيين الاهتداء بتجربة شبه مماثلة شملت أشواط المصالحة في دولة مالي بعد الضربة العسكرية الفرنسية. فقد ركز الحوار على استبعاد التنظيمات المتطرفة، ضمن منظور ارتضاه الشركاء كافة. ولعل في الاقتداء بفكرة عزل التنظيمات والميليشيات المتطرفة، ما يسعف في تلمس مصالحة واقعية. ذلك أن ما ستواجهه أي حكومة عند الاتفاق على آلياتها وشروط تشكيلها، لن يقتصر على إنهاء الصراع الدامي، بل ستأتي مواجهة التنظيمات المتطرفة في مقدم التحديات. ولن يكون المجتمع الدولي بعيداً من مواجهة كهذه، في ضوء إدراك مخاطر غض الطرف عن التهديدات الإرهابية المحدقة بأي مكان.