تجاوزت أوروبا عدمية ما بعد الحرب العالمية الثانية، ليس فقط لأن الولايات المتحدة الأميركية (حيوية الغرب الكبرى) كرّست طاقتها لإعادة إعمارها بمشروع مارشال، بل لأن أوروبا نفسها هي التي صاغت وجسدت لقرون سابقة تقاليد الغرب الكلاسيكية: الأخلاقية والمعرفية والسياسية، وتمكنت عبرها من وضع نفسها على قمة هرم القوة والثروة والمعرفة، وأن تصوغ مسميات الزمن الثقافي المعتمدة في الفكر الإنساني منذ عصر النهضة. على العكس من أوروبا، يفتقد عالمنا العربي إلى ذلك الشعور بالجدارة، لأن تقاليده الكبرى المؤسسة لتاريخه صارت بعيدة في كهوف الزمن العتيق، ولأن تقاليده الحديثة ليست من صنعه، ولم تكن قد اكتملت له عندما هاجمه روادها، فأثاروا مخاوفه منها وتردده إزاءها. فضلاً عن ذلك، افتقد العالم العربي دور القوة الحيوية القادرة على أداء دور الرافعة التاريخية. حاولت مصر أداء هذا الدور في مرحلة من تطورها حوالى منتصف القرن العشرين، بما امتلكته من موارد ديموغرافية واقتصادية وعسكرية وثقافية، إذ مثلت آنذاك ربع كتلة العرب السكانية، ونصف قوتهم الاقتصادية، وثلثي طاقتهم الثقافية، وربما ثلاثة أرباع قوتهم العسكرية. غير أنها أفرطت في الإنفاق منها بلا رشد، عندما تورطت في صراعات سياسية والتزامات عسكرية أثقلت كاهلها، فكانت هزيمة حزيران (يونيو) 1977 العسكرية، تلك التي شغلتها بنفسها، واستهلكت طاقاتها في مجرد تجاوز محنتها في حرب أكتوبر 1973 التي فتحت أمامها طريق العودة. ولكن عندما أخذت هي في العودة، كان العالم قد أخذ في التغير، فيما عجزت هي عن اللحاق به بالإيقاع نفسه. والنتيجة، بعد نصف قرن تقريباًٍ، فقدانها عوامل القوة الشاملة، التي لم يبق منها سوى التفوق العسكري، مقابل ترهل ثقافي يحتاج إلى عمل دؤوب إذا ما أرادت أن تستعيد ريادتها، وتراجع اقتصادي يحتاج إلى جهد كبير إذا ما أرادت مجرد الوقوف على قدميها، بينما صار الحجم الديموغرافي أقرب إلى العبء، يتطلّب جهداً دؤوباً لاستيعابه وتجاوز ضغوطه. الأخطر أن الولايات المتحدة، التي أدت بالأمس دوراً إيجابياً في تعويم أوروبا، تؤدي اليوم دوراً سلبياً في تقزيم العالم العربي، بالضغط على مصر، التي طالما نظر إليها العقل الأميركي بارتياب ينبع من جوهر تكوينه البراغماتي، ورؤيته (الاختزالية)، التي تبدي نوعاً من التشكك في التاريخ ودرجة عالية من اللامبالاة به، إذ تعتبره مجالاً لمراكمة أحقاد الماضي وضغائنه، وليس فضاء لتفاعل إرادات الأمم، وتراكم خبرات الشعوب. ولأنه عقل ذرائعي، نشأ ونما في إطار فكرة البحث عن «السعادة» في أرض الفرص الكبرى، فهو يقيس كل المواقف بذهنية ما تمثله من ربح مباشر تحقيقاً للوفرة والتفوق. ومن ثم يسلك وفق تصوّر أن كل شيء يقبل التفاوض، وأن عقد الصفقات أمر ممكن دائماً، معولاً على القوة العسكرية، واثقاً بقدرتها على إنتاج تواريخ جديدة ونظم مغايرة. في هذا السياق، نظرت الولايات المتحدة دوماً إلى المنطقة باعتبارها ظلاً استراتيجياً للصراع العالمي، حاولت توظيفها في خدمة مجرياته، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وصعودها إلى موقع القطب العالمي. ثم سعت إلى هندستها وإعادة هيكلتها ضمن مفهوم الشرق الأوسط بشتى تجلياته، منذ انفردت بالقطبية العالمية، حيث قامت بعملية إسقاط تاريخية لجديد العالم الاستراتيجي (انتصارها في الحرب الباردة) على واقع العرب السياسي، خصوصاً الصراع العربي - الإسرائيلي. فتصرفت على أساس أن العالم العربي قد هزم بالضرورة أمام إسرائيل عندما هزم الاتحاد السوفياتي أمامها. وعلى رغم أن حرباً كـ «عاصفة الصحراء»، لم تكن لتنجح على هذا النحو إلا بمشاركة قوية من مصر، ودعم لوجيستي من الدول العربية الرئيسية (السعودية وسورية)، وتأييد معنوي من التيار الواسع في الرأي العام العربي، الأكثر اعتدالاً وحرصاً على الانتصار للشرعية الدولية ضد العدوانية العسكرية، فقد تصرّف العقل الأميركي وكأن العرب جميعاً قد هُزموا. وتبعاً لذلك، أكدت القراءة الذرائعية أن القومية العربية قد هزمت أمام العقيدة الصهيونية، كما هُزمت الإيديولوجيا الشيوعية أمام الرأسمالية، وكأن القومية العربية، بكل عمقها التاريخي، مجرد إيديولوجيا سياسية قابلة للهزيمة والتلاشي. وكما تداعى نمط الحياة السوفياتي - الاشتراكي بكل مقوماته أمام النمط الأميركي - الفردي، فقد توجب على العالم العربي أن يسلم قياده لإسرائيل التي صارت في موقع القطب الإقليمي المنفرد في مواجهة التمزق الاستراتيجي العربي. وكما تم تفكيك الكتلة الاشتراكية حول روسيا ليتبدى انكشافها أمام الغرب، جرت محاولات تفكيك الكتلة العربية حول مصر ليتأكد انكشافها أمام إسرائيل. حصار مصر ومترتباته أدى حصار مصر إلى حالة من التيه الاستراتيجي للعالم العربي، تعرض خلاله لأنواع شتى من الإذلال سواء في الصراع مع إسرائيل، أو في مواجهة إيران، خصوصاً عندما جرى حصار العراق وإضعافه، وتجويع أطفاله لأكثر من عقد. ولأن العروبة انتماء وجودي، وليست مجرد إيديولوجيا سياسية، فقد بدت عصية على الهزيمة. وبدلاً من الاستسلام لإذلالها أخذت تبدل ثيابها، وتستدعي احتياطها من المخزون الإسلامي، لتستحيل في جزء منها أصولية جهادية تدافع عن كرامتها المهدرة، حيث تأسس تنظيم «القاعدة» منتصف التسعينات الماضية، بزعامة بن لادن، قبل أن يتوسع ليشمل تنظيم «الجهاد» المصري بقيادة أيمن الظواهري، ومجلس شورى «الجماعة الإسلامية»، وجمعية العلماء، وحركة الأنصار في باكستان، وتنظيم الجهاد في بنغلاديش وصولاً الى «الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين»، وصولاً إلى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، التي حفزت نزعة تدخلية أميركية في مناطق عدة من العالم بذريعة مواجهة الإرهاب، وصولاً إلى احتلال العراق نفسه، واضطهاد المكوّن السني فيه، مع محاباة المكون الكردي، والحياد السلبي إزاء المكون الشيعي، قبل الانسحاب منه، وإخلاء الطريق أمام الدور الإيراني، الأمر الذي أفرز «تنظيم الدولة»، كرد فعل مأسوي على المظلومية السنية في بلد عرف تاريخياً بحدة شخصيته الوطنية، وميله الى توسّل العنف في كل الاتجاهات. وهنا نجد أن الولايات المتحدة، انطلاقا من رؤية قصيرة النظر تعتقد أن التصدي للأصولية السنية وحدها يمثل واجب الوقت الذي يغطي على كل واجب آخر، قد تغافلت عن العقيدة الصهيونية لستة عقود كاملة، مكنتها من تفجير الحروب وإرهاق المنطقة. كما تغاضت، منذ عقد، عن الأصولية الشيعية، التي مارست ولا تزال استراتيجية تغلغل دؤوبة تستند إلى طائفية مقيتة، تمتد من العراق والبحرين مروراً بسورية ولبنان وصولاً إلى اليمن، بل يتصاعد خطابها السياسي إلى حد الحديث عن إمبراطورية فارسية عاصمتها بغداد، في صراحة غير مسبوقة، تتوازى مع دور الحرس الثوري بقيادة الجنرال قاسم سليماني في العراق وسوريا، ومع التوقعات المتزايدة بانعقاد الصفقة الكبرى مع «الشيطان الأكبر»!، حيث المبادلة الضرورية بين الملف النووي والهيمنة الإقليمية. في هذا السياق، يتبدى حجم الضغوط على الجغرافيا السياسية العربية، كما تتبدى حتمية مجابهة الضغوطات وتوقيف الانهيارات، الأمر الذي يبدو مستحيلاً من دون استعادة الحيوية المصرية، ولكن، على أسس جديدة مغايرة للحقبة الستينية، تدعم قيادتها للكتلة العربية نحو مثل الديموقراطية والتعددية في الداخل، والاستقرار والسلام في الخارج، بما يقوي تيار الاعتدال العربي، ويعزل التيارات المتطرفة، ويحصّن التخوم الضعيفة، وذلك عبر النهوض بثلاث مهام أساسية: الأول، هو التعاطي الجاد مع أزمتها الاقتصادية الخانقة، على النحو الذي شرعت فيه بانعقاد مؤتمر «مصر المستقبل» لشركاء التنمية، بدعم عربي ساحق من الأشقاء في السعودية والإمارات والكويت، يكاد يمثل مشروع مارشال عربياً، ومشاركة دولية لافتة، تكشف عن إيمان حقيقي بمركزية مصر الإقليمية. قطعاً يحتاج الإصلاح الاقتصادي إلى وقت ليؤتي ثماره، لكن انعقاد المؤتمر في حد ذاته، ودوران عجلة الاستثمار، يعطيان دلالة ترفع المعنويات في الداخل وتدفع بمزيد من الثقة في شرايين التحرك في الخارج. والثاني، هو تنشيط دورها العسكري، خروجاً على الحذر الموروث من عقود ثلاثة ماضية، لم تخرج خلالها مصر عن حدودها إلا ضمن الحشد الدولي لتحرير الكويت، بقيادة أميركية. ولهذا كانت الضربة الجوية لمواقع «داعش» في ليبيا، تطوراً لافتاً ومهماً على هذا الصعيد. فعلى رغم التحولات التاريخية في الأدوار العالمية والإقليمية ابتعاداً عن الجغرافيا السياسية، واقتراباً من الجغرافيا الاقتصادية، تبقى للقوة العسكرية مركزيتها. ليس مطلوباً هنا تورّط مصر في صراعات خارجية أو حروب برية مكلفة، بل تكفيها عمليات نوعية من هذا القبيل، أو أوسع قليلاً تعويلاً على فرق العمليات الخاصة، في جغرافيا ملاصقة، لتكشف عن الحدود التي يمكن أن تذهب إليها حال الضرورة. أما الثالث، فهو صوغ إطار سياسي للحيوية المصرية، يتسم بالاستقلالية عن الإرادة الأميركية، ولكن مع موازنة ذلك بدعم وشرعية عربيين. ومن ثم تأتي أهمية مشروع «القوة المشتركة»، إذا أقرتها القمة المقبلة، كتفعيل لاتفاقية الدفاع العربي المعطلة منذ عقود، وإشارة رمزية، الى ميلاد إرادة عربية جديدة، راغبة في مواجهة تحديات المنطقة، بدلاً من الخوف المهيمن، والانكفاء المضجر على النفس، الذي دفع بالنظام العربي إلى حافة الموت. فإذا تعذر إقرارها رسمياً، تعين على مصر استخدامها كأداة تكتيل لمحور الاعتدال العربي الذي يتشكل حولها مع السعودية من الإمارات والكويت والأردن، ويتسع لمن يرغب.