لسبب وجيه بسيط، سألت عن صحة أصابع اليد اليمنى للصديق الشقيق، عبده خال، ولم أسأل عن لسانه الذي صمت عن الكلام في وعكة صحية طارئة. ذاك لأن (أبا وشل) لم يكن في المشهد الإبداعي العربي مجرد (ظاهرة صوتية) لسانية بقدر ما كان فعلا، كتبت ثلاث من أصابع يده اليمنى حكاية الأرض والطين ومآسي القرى وأماسي القصور المترفة. هو باختصار واحد من بيننا الذي تبدو صحة أصابعه أهم من صحة لسانه الذي (تلعثم) عن الكلام حتى تكاد تقول إن (المرض) الطارئ نفسه يعرف ماذا يصطاد ويعرف ماذا يترك. مشكلة عبده خال أنه كتب لمجتمع لا يحبذ الاعتراف بمآسيه ولا بقصص القاع المجتمعي الموغلة في الحرمان والألم والبؤس. مشكلته أنه كاتب قصص وروايات المهمشين على أطراف أظافر هذا المجتمع. مشكلة عبده خال الأساسية أنه كان نهرا روائيا جارفا، ولكن بلا ماكينة إعلامية تضعه في المكان الصحيح الذي يستحق في عالم الإبداع الروائي للغة العرب بجانب نجيب محفوظ ومحمد شكري ويوسف إدريس وحنا مينه. وحتى حينما فاز بجائزة (البوكر) العالمية، أخذتنا الدهشة لحظة الإعلان، لأن عبده خال كان يجلس لحظتها في (دبي) على طاولة مستديرة مع سبعة من دهاقنة الرواية العربية. مشكلة عبده خال أنه كتب (مدن تأكل العشب) لمجتمع مدني خالص وصحراوي لا يرى مساحة حديقة صغيرة من العشب الأخضر. مشكلته أنه كتب (المجنة) لمجتمع تخلى عن هذا اللفظ واستبدله بـ(المقبرة). هو من كتب (ليس في الحياة ما يبهج)، وأنا أعترف اليوم إنها أعظم رواية قرأتها وكأنها (أنا) بالضبط في بطلها الرئيس وهوامشها الثانوية. كنت مع عبده خال في آخر لقاء جمعنا على متن طائرة من جزر المالديف إلى مطار الرياض. قلت لصاحبي: (وداعا.. إما أن تبكيني، وإما أن أرثيك..) لماذا هذه الجملة إذاً؟ لأنني وبجواره على الطائرة رأيته يبلع سبع حبات من العلاج لأمراض عضوية، بينما كان يشاهدني مشفقا وأنا أبلع حبتي علاج نفسي. تخيلوا أخيرا مأساة عبده خال: مدرس لمادة (التعبير) في الرابع الابتدائي حتى اللحظة، ولكي يكمل نصابه المدرسي أعطوه حصص الرياضة البدنية في جسد لا علاقة له بالرياضة. أكثر من هذا، وبكل الألم، يعيش (أبا وشل) في قارة، وزوجته مع طفليه الأصغرين في قارة ثانية، بينما يعيش البكران في قارة ثالثة...! هو نفسه رواية تستحق أن تكتب. أخيرا: سلامة أصابعك اليمين.. ستنهض وتنتصر.