جبران، جبران، جبران... لو لم يكن للبنان جبرانه لما تأخر اللبنانيون في اختراعه. فهو ما زال الرغيف المعنوي اليتيم في معجنهم، على رغم تأكيده الجارح بأن لبنانه ليس لبنانهم، المركنتيلي الانتهازي المتاجر بطوائف وعشائر وقبائل باتت أشد فتكاً بلبنانه مما كانت عليه في زمانه. وفي كل مرة يأتمرون – وأكاد أقول يتآمرون – للاحتفال بعبقرية جبران، تطفو الأسئلة الصعبة على سطح تمظهرهم، زينة احتفالاتهم وزبدتها - ثقافية، اجتماعية، وطنية، أو دينية. لو لم يهاجر جبران خليل جبران إلى العالم الجديد ولو لم يدلف منه إلى باريس ولو لم يلق في اغترابه التقدير الطبيعي لموهبته الفذة، هل كان لنا أن نحظى به؟ وهل كانت موهبته مؤهلة للنمو الصحي في بلد المجاعات والحروب والتخلّف الفكري والتعصب الديني؟ وهل يكفي أن يولد المرء في مكان ما كي يصبح نتاجه حكراً على مسقط رأسه؟ في الولايات المتحدة خليل جبران (كما يعرفونه هناك) كاتب وفنان أميركي من أصل سوري، إذ لم تكن الهوية اللبنانية آنذاك مستقلة عن السورية. مهاجر كالملايين الذين نزحت بهم الأهوال إلى أميركا حيث تعلّم اللغة وبدأ يلقى التشجيع والاحتضان والدعم حتى حقق ما حققه من إبداع وعبقرية. أما في مسقط رأسه فكانت الكنيسة ضده والمجتمع غير مهتم به وكان على شقيقته أن تذرف دلواً من الدموع قبل أن يقبل الكاهن بالصلاة على رفاته! أما في أميركا، فشهدت كلماته مسارات طاولت خطب البيت الأبيض والمناهج التعليمية والجامعية وصولاً إلى بطاقات المعايدة والروزنامات والمأثور الشعبي. وفي ستينات القرن الفائت بات «نبي» جبران «كتاب البيت»، بحيث تُقرأ فصوله في مناسبات الزواج والخطوبة والتجمعات الشبابية. وفي المقابل، لم يكن أدبه ممنهجاً بعد في المدارس الرسمية اللبنانية، ناهيك عن إغفاله كلياً في معظم أنحاء العالم العربي. وبدلاً من تدارك الأمور نحو الأفضل، طفرت دعوات التزمت الديني إلى منع كتبه ومصادرة نسخها من المكتبات. يومها تندّر ساخر مرير بقوله: يقبل العربان شراء السلاح الأميركي بمليارات الدولارات بينما يرفضون قراءة كتاب أميركي لمؤلف من أصل عربي! ولكن هل تمكن لبنان بحق من «مصادرة» جبران في صورة تليق بعبقريته؟ هل يمنح لبنان المتبجح بـ «أبجديته» ليلاً ونهاراً، جائزة وطنية سنوية لمبدع من بنيه، تحمل أو لا تحمل اسم جبران. فصاحب «الأجنحة المتكسرة» لا يزال مكسور الخاطر، لأن وطن ولادته لم يستوعب بعد أنّ رسالته ليست في براعة رجال أعماله وجنى مصارفه وزحمة فنادقه وتخمة مطاعمه وازدهار سياحته، بل في نتاج عقول أبنائه المبدعين الذين ما زالوا يهاجرون إلى بلاد تعرف حق قدرهم وقيمة مواهبهم. لا ولم يفهم حتى الذين اعتبروا أنفسهم «ورثة» التركة الجبرانية البعد الكوني لجبران، فمتحفه في بشري لا يحوي مكتبة تضمّ أعماله المنشورة في اللغات المختلفة. تتخيّل ردّ فعل الزائر الوافد من بلاد الله الواسعة حين لا يستطيع العودة إلى موطنه ومعه كتاب لجبران بلغته؟ وحتى التسهيلات الصوتية المترجمة التي تبرعت بها اليابان منذ سنوات، كي تمكّن الزائر من متابعة خلفية الأعمال المعروضة ومعانيها لم تعد متوفرة في المتحف. كل ما هناك بطاقات بريدية ونسخ لبعض اللوحات وغياب شبه كامل للأنشطة الثقافية، لئلا نخدش حساسية «البشرّانيين» على احتكارهم مراكز القرار في اللجنة والمتحف على السواء، كأنما جبران العالمي عاد مختاراً لضيعة! مناسبة الكلام أعلاه معرض افتتحته جامعة سيدة اللويزة - بحضور وزير الثقافة اللبناني روني عريجي- بعنوان «جبران خليل جبران في أعمال غير معروفة» (يستمرّ حتى نهاية الشهر الجاري). وفي البرنامج أسبوعان من الأنشطة الطالبية المتمحورة حول التركة الجبرانية. الواقع، باختصار، أن المعروضات المعلقة (35 لوحة) غير موقعة من جبران وغير محققة فنياً من جهة موثوقة، وبعضها شديد البعد عن المناحي الجبرانية المعهودة، وكلها « نسخ دقيقة ومحترفة مأخوذة عن الأصل بإذن خاص من لجنة جبران الوطنية» وفق الكتيّب الموزع على ضيوف المعرض. ولكن لماذا تُعرض نسخ عن الأصل إن كان الأصل موجوداً؟ وأين وجدت لجنة جبران الوطنية هذه اللوحات؟ كيف ومتى؟ لا جواب. بل اكتفى خطباء الافتتاح بالإنشائيات المعهودة من دون أن يتطرقوا إلى خلفية المعرض وحيثياته. رئيس الجامعة الأب وليد موسى ركز على أنشطة الطلاب في الأسبوعين اللاحقين. رئيس لجنة جبران، طارق الشدياق أعادنا إلى ذكريات الريشة الأولى بيد جبران وهو في الخامسة عشرة من عمره. أمين البرت الريحاني- ممثلاً مؤسسة الفكر اللبناني الشريكة في إعداد المعرض- أكد أن جبران يقول الآن من عليائه: «ها أنا ذا أعود إليكم عبر مجموعة من اللوحات القديمة الجديدة ...». ومن ثمّ جاء ثلاثة طلاب عزفوا لحناً جازياً مستوحى من «أعطني الناي وغني». أطالوا حتى استوعبوا أنهم أطالوا، لكنّ التصفيق لم يكن فاتراً بل من قبيل الواجب التشجيعي للجيل الجديد.