كانت رواية «القرين» (أو «المثل» أو «الشبيه» في بعض الترجمات) ثاني رواية طويلة بعض الشيء يكتبها دوستويفسكي، بعد روايته الأولى «الفقراء». يومها، ما إن صدرت هذه الرواية، حتى استقبلها كثر بازدراء، وقال البعض إنها تأتي لتؤكد ما كانوا قالوه من أن هذا الكاتب الجديد الشاب غير موهوب، فيما قال البعض الآخر ان دوستويفسكي «تراجع فيها عن مستوى واعد كان وصله في الرواية السابقة». وحده بيلنسكي، يومها، من بين النقاد الكبار جميعاً، أثنى على «القرين» قائلاً في خلاصة مقال تقريظي عنها، إنه يرى فيها «من الموهبة الخلاقة ومن عمق الفكر» ما لم يُلحظ مثله في أي عمل سابق لدوستويفسكي أو لأي من أبناء جيله، خاتماً كلامه بأن «كتّاباً كثراً سيظهرون خلال حياة دوستويفسكي يعارضونه أو ينافسونه، لكنها ستكون مواهب يطويها النسيان بسرعة... أما موهبة دوستويفسكي فستظل متربعة ذروة المجد». ونعرف اليوم ان بيلنسكي كان على حق في ما ذهب اليه، حتى وإن كان دوستويفسكي قد كتب بعد «القرين» كثيراً من الأعمال التي جعلت هذه الرواية ثانوية الأهمية، على فرادتها. وسيقول دوستويفسكي نفسه عن «القرين» لاحقاً (في «يوميات كاتب» - 1877): «أنا لم أُوفّق كل التوفيق في هذه الرواية، ولكن فكرتها تبدو لي واضحة وضوحاً تاماً، بحيث لا أحسب أنني أضفت الى الأدب فكرة أكبر منها خطراً وأعلى شأناً... كل ما في الأمر أنني لم أوفق في العثور على شكل يضاهي هذه الفكرة». وهنا أيضاً يمكننا أن نوافق دوستويفسكي على كلامه، لكننا إن نحن بحّرنا في تاريخ الأدب منذ ذلك الحين سنرَى كم مرة حوكيت فيها هذه الرواية، وكم «شبيهاً» و»مثلاً» و»قريناً» أبدع الكتاب خلال قرن ونصف القرن من بعدها. > كتب دوستويفسكي «القرين» اذاً في العام 1845 لينشرها في العام التالي، وكان لا يزال في منتصف العشرينات من عمره... ولا بأس من أن نشير هنا، ومنذ الآن، الى أن الرواية حين نشرت لم تحقق سوى فشل ذريع في صفوف القراء العاديين، من الذين لاحظوا للوهلة الأولى أن «حبكتها غير منطقية يشوبها كثير من الإرتباك». وقد كان على «القرين» أن تنتظر زمناً طويلاً قبل أن تستعيد مكانة تستحقها، على رغم كل الحماسة التي أبداها بيلنسكي. ولعل العامل الرئيس الذي أعاد الاعتبار، لاحقاً، الى الرواية، كان ان القراء، اذ راحوا يقرأون روايات دوستويفسكي التالية تباعاً، بدأوا يكتشفون، بدهشة، أن «القرين» تحمل مسبقاً وفي أشكال جنينية، عمق التحليل السيكولوجي الذي صار الكاتب من متقنيه الكبار، ناهيك بالليونة التعبيرية التي أضحت علامة على أدبه. ومن هنا، انطلاقاً من مثل هذه الملاحظات، أعيد اكتشاف الحبكة والرواية ككل لتحتل مكانتها كما أشرنا. فعمّ تتحدث الحبكة؟ > تتحدث، في بساطة تلوح تدريجياً، عن شخص يدعى غوليادكين، كان في الأصل غير متوازن يعاني من بعض المشكلات النفسية والعقلية، لكنه هنا، حين تبدأ الرواية، نراه يتعرض الى مزيد من الظروف السيئة التي تحوّل عدم توازنه النسبي، الى فقدان كامل للعقل أو هذا، على الأقل، ما يقرره الأطباء الذين ينتهي بهم الأمر الى وضعه في مصح عقلي بوصفه مجنوناً حقيقياً. وفي الرواية، منذ صفحاتها الأولى، وحتى سطورها الأخيرة يظل الكاتب مرافقاً «بطله» لا يتركه ولو للحظة، وكل همه أن يرصد جنونه وتطوره. وهذا التطور يصفه دوستويفسكي منذ السطور الأولى حين يستيقظ غوليادكين فيتثاءب ويتمطى قبل أن يفتح عينيه، لكنه يظل «مستلقياً على فراشه دقيقتين ساكناً لا يتحرك وكأنه لا يعلم علم اليقين أهو استيقظ حقاً أم هو لا يزال نائماً، ولا يعلم علم اليقين، أكلُّ ما يراه حوله هو جزء من العالم الواقعي، أم هو امتداد الرؤى المضطربة التي رآها في حلم»، وصولاً الى السطور الأخيرة، حين يحاول غوليادكين أن يحتج على حكم طبيبه القاسي عليه قائلاً: «... أنا لم أصنع شيئاً... يخيل اليّ أن...» فيقاطعه الطبيب: «سيكون لك حق في مسكن بالمجان، مع تدفئة وإضاءة وخدمة، مع ذلك كله لست جديراً به ولا أنت تستحقه»... ويكون الختام: «دوّى جواب الطبيب القاسي في أذني بطلنا دويّ حكم لا رحمة فيه. وأطلق السيد غوليادكين صرخة، وأمسك رأسه بين يديه. واأسفاه! لقد تنبأ بهذا كله منذ زمن طويل...». اذاً، بين مشهد البداية ذاك، ومشهد النهاية هذا، موضوع دوستويفسكي الأحداث التي يعيشها غوليادكين مخضعاً إياه الى رقابة عن كثب... ولا سيما حين يقرر غوليادكين بداية أن من الأفضل له أن يستشير طبيباً... واذ يفعل يتناقش مع هذا بعمق وغايته أن يؤكد لنفسه قبل أن يؤكد للآخرين أن وضعه طبيعي. بعد ذلك يتجه البطل الى منزل رفيق عمل له يقيم حفلاً راقصاً... وكان مراده أن يحيي ابنة زميله التي يقام الحفل من أجلها. فهو بعد كل شيء يحب هذه الفتاة. لكن المجتمعين بالبيت كانوا قد علموا بحالته العقلية لذلك يرفضون استقباله رفضاً قاطعاً، ما يزيد من خطورة حاله، فيقرر أن يتسلل الى البيت ليشارك، على طريقته، في الحفل. كيف؟ عبر اقتراف كل أنواع التصرفات الغربية، مهيناً هذا، ضارباً ذاك، ساكباً الشراب على الأرض متفوهاً بما لم يكن يتوقعه، هو نفسه، من عبارات. وتكون النتيجة أن يُطرد من البيت ومن الحفل طرداً. وهنا يزداد هذيانه، لتتحول كل خيالاته الآن الى واقع حي يعيشه. وفي مقدم ذلك التقاؤه بقرينه: أي بالسيد غوليادكين الآخر، الذي يشبهه تماماً ويحمل اسمه ويعيش الى جانبه. والأدهى من هذا ان غوليادكين الآخر، الذي لم تخترعه سوى مخيلة غوليادكين الأصلي، يصبح هو الذي يرتكب كل الموبقات والتصرفات السيئة، التي يمكن لبطلنا الحقيقي أن يشعر انه منها براء تماماً. واذ يحس هنا ان غوليادكين الآخر قد «زادها» الى حد لا يطاق، لا يجد مفراً من أن يدعوه الى المبارزة... اذ صار كابوساً حقيقياً في حياته وشعر بأن الأوان قد حان للتخلص منه كلياً، بعد أن بات الآخر يرافقه في كل خطواته. فإذا دخل دكاناً لبيع الحلوى يبدأ الآخر في تناول قطع الكاتوه والتهامها والناس يعتقدون أن «الأصلي» هو الذي يفعل ذلك... ثم اذ يهرب «الأصلي» راكضاً في الشارع، يجد «الآخر» يتبعه كظله مهدداً متوعداً. وفي نهاية الأمر يحدث ما كان لا بد له أن يحدث: يصار الى القبض على غوليادكين الحقيقي، ويساق الى المصح العقلي. وحتى هناك، لن يمكنه الإفلات من ذلك الظل الثقيل، اذ يجده في رفقته داخل العربة التي تقله الى المصح... وهنا تحدث المعجزة: يختفي القرين تحت العربة... > لن نطيل هنا في التوقف عند الأحداث المتتالية اذ انها كلها تأتي شبيهة ببعضها البعض، مع فارق أساس يكمن في ان حال غوليادكين الأصلي تتطور من سيء الى أسوأ بين مشهد وآخر، تحت قلم دوستويفسكي الذي راح يرسم صورته في حركة تصاعدية كشفت مبكراً عن نزعة واقعية سيكولوجية وصلت الى الذروة ممزوجة بمشاعر الكاتب التي راحت تتراوح بين الشعور بالرهبة والشعور بالشفقة في آن معاً... ولسوف يتوقف النقاد - وعلماء النفس - طويلاً لاحقاً عند إبداع دوستويفسكي في التسلل الى داخل الشخصية ووصف تحولاتها، الى درجة يمكن معها القول ان هذا التسلل كان هو الذي أضفى على «القرين» قيمتها الكبرى. > كما أشرنا كان فيودور دوستويفسكي (1821 - 1881) حين كتب «القرين» في بداية شبابه ومساره المهني... لذلك نجده اذ نشرت الرواية وقوبلت بسلبية، يشعر بمرارة شديدة من جراء ذلك. ولقد دفعه هذا، لاحقاً وبعد عودته من سيبيريا الى محاولة إعادة كتابتها، لكن وقته لم يسمح له بإنجاز تلك المحاولة، لذلك حين أعاد نشرها من جديد في العام 1865 عاد ونشرها، كما هي، مع بعض التعديلات الطفيفة، بعد أن كانت نيته أن يجعل من غوليادكين واحداً من أنصار الإشتراكية منتمياً الى فكر فورييه والى تنظيم بتراشفسكي المتطرف ليقود الثورة... ما كان من شأنه أن يضفي على العمل بعض إمارات السيرة الذاتية لأن دوستويفسكي كان هكذا، قبل سيبيريا.