لم يكن أحد من متابعي الشأن السوري داخل سوريا وخارجها، يعتقد أن السوريين قادرون على الشروع في ثورة، وأن ثورتهم ستستمر 4 أيام، ناهيك عن 4 عوام. كان المجتمع السوري يبدو مفككا، من دون خبرة في الشؤون العامة ومن دون قيادات، وقليل العدد بالمقارنة مع أتباع السلطة منه، الذين قالت التقديرات إنهم في حدود 15 مليون سوري وسورية، هم إما مع النظام أو سيحجمون عن الانخراط في أعمال ثورية أو احتجاجية ضده. وكان النظام مستعدا عسكريا وسياسيا لمواجهة أي تحرك، فالجيش والمخابرات والشبيحة يضمون نيفا ومليون مسلح دُربوا على أحسن وجه لمنع أي مواطن من النزول إلى الشارع، ناهيك عن القيام بثورة، وموظفو الدولة تحت الطلب، وكذلك تلامذة المدارس والجامعات، وعمال المصانع ومنتسبو المنظمات الشعبية بملايينهم الثلاثة؛ فلو افترضنا أن كل واحد من هؤلاء «يمون» على شخص أو شخصين، لكان الشعب المنظم والراضخ للمركز السلطوي في جيب النظام، بينما خصومه مفككون مشتتون ويفتقرون إلى قيادة وتوجيه. ليس المرء بحاجة إلى ذكاء خاص، كي يعرف لمن ستكون الغلبة في الشارع وخارجه. ولأن الجو الدولي كان متشككا تجاه الربيع العربي، فقد اعتقد أرباب النظام أنه سيتم حسم الأمور خلال أيام قليلة، بضربات عسكرية قوية ومتلاحقة، وإنزال ثقل شعبي كبير إلى الشارع، واتهام الحراك بالأصولية والإرهاب. كما آمن النظام بأن «الفوضى» ستكون محدودة، لأن المناطق الموالية أكثر من مناطق الاعتراض، واحتكار السلطة للمجال العام يجعله عصيا على الاختراق من قبل متظاهرين يفتقرون إلى قيادة سياسية أو خطة ثورية، فأي ثورة يمكن أن تنشب في سوريا، في ظل رجحان ميزان القوى الشعبي لصالح نظامها الذي يحتكر العنف وأجهزته بنسبة ألف في المائة، علاقاته مقبولة مع الغرب عامة، وجيدة جدا مع أميركا، يتحالف مع روسيا وإيران، وله مكانة حساسة جدا في العالم العربي تجعل دوله ترفض من سيخرجون عليه، وإلا هددت أمنها عبر تهديد دوره المهم في العلاقات والتوازنات القائمة بينها وبين إيران. حين نزل المتظاهرون إلى الشارع كانوا قلة، عدا في مدينة درعا، التي شهدت حشودا بعشرات الألوف منذ يوم التمرد الأول، بعد تعرض وجهائها للإهانة من قبل رئيس فرع أمن. لكن العنف الذي استخدم ضد درعا فجر غضبا عصف ببقية السوريين، وأنزل قطاعات كبيرة منهم إلى الشارع في جميع مدن سوريا، التي سرعان ما أقام حراكها رابطة وطنية بين أطرافها مناوئة لوطنية الاستبداد المفروضة من فوق. لقد نبعت الوطنية الشعبية من الحرية بصفتها المبدأ الرئيسي لمنظومة قيمية معادية لكل ما تبنته الأسدية. يفسر هذا نشوء عالمين متنافيين بعد أسابيع من الحراك: أحدهما عالم الشعب السلمي، الذي كان برنامجه «الحرية للشعب السوري الواحد»، وانضمت إليه يوميا جموع هائلة جاءت من البلدات الصغيرة والأرياف، والآخر عالم السلطة التي فقدت بسرعة شرعيتها، بسبب ما استخدمته من عنف لا قيود عليه ضد شعب أعزل ومسالم يطالبها بالإصلاح، ولا يطالب بتغييرها أو إسقاطها، لاعتقاده أن الثورة مكلفة جدا، وأن الأسد لا بد أن يكون وفيا لشعار الحرية، الذي جعله البعث أحد التزاماته التي لم يحققها خلال نصف قرن. بعد أيام من الانتفاضة كان الوضع العام قد تغير، واكتشف النظام أنه ليس موجودا في الشارع، وأن أحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية» ليست غير أصفار، وأن شيوخ الأوقاف لا يمثلون المسلمين، وأنه سلطة قمع وعسكر وفئوية وطائفية. بالمقابل، تنامت وطنية الشارع المطالب الحرية، وتعاظم وزنه وتضامنه، وظهرت فيه قيادات محلية مؤمنة بالحرية كمبدأ تشمل نعمه الجميع، وبوحدة شعب سوريا، الذي يجب أن يظل واحدا، ويقاوم كشعب موحد نظاما صار عدوا لكل فرد فيه. عندما بدأت انشقاقات العسكر مع المقدم محمود الهرموش، بدا أن النظام يتهاوى وأن عنفه يرتد عليه، وأن كيانا سياسيا بديلا شرع يتخلق شعبيا وثوريا، وأن انهيار السلطة ومؤسساتها يتسارع، بعد افتضاح أمرها كجهة تعمل لإحراق بلادها، وقتل شعبها من أجل إبقاء بشار الأسد في الحكم، رغم ما أبداه خلال حكمه من عقم سياسي وإنساني، وتسبب به من أزمات ومشكلات دفعت الشعب إلى الثورة. كان جليا في الأشهر الأولى أن هناك عالما ينشأ وآخر يموت: عالم شعبي وطني يقول بالحرية لشعب سوريا الواحد ويسعى لتحقيق مطالبه سلميا، أهدافه العدالة والمساواة وكرامة الإنسان. وعالم سلطوي كاره لكل من ليس منه، يستخدم العنف ضد شعبـ«ـه» الأعزل، ويلعب ورقة الطائفية ليفتت مجتمعـ«ـه» ويزج به في حرب أهلية. في ظل هذا التطور المتناقض، ظهر المجتمع السوري كحقيقة سياسية قائمة بذاتها ورافضة للنظام، وتبين كم هو قوي وراسخ الجذور في الواقع اليومي. عندما بدأت المقاومة وتم تحرير ثلثي الأرض السورية من السلطة، وأخرج النظام من مناطق لطالما أحكم قبضته عليها، أيقن الشعب أن سقوط الأسد صار مسألة وقت، وأن تضحيات بناته وأبنائه لن تذهب هباء. في هذا المنعطف، تفاقمت تدخلات الخارج وأخذت صراعاته تغطي على الصراع الداخلي أو تلحقه بها، وشرعت معركة تصفية الحسابات بين أميركا من جهة، وإيران وروسيا من جهة أخرى، تحجب معركة الحرية، وتبين كم كانت الثورة بحاجة إلى قيادة تبادر إلى استثمار مقومات الانتصار والحسم، وانتقلت إيران وروسيا إلى التدخل العسكري المكشوف، وبدأت تتبدل علاقات القوى في الداخل، قبل أن يستغل الإرهاب والأصوليون فراغ القيادة ويقدموا أنفسهم بديلا لثورة الحرية، في موقف يكمل مواقف النظام ويلاقيها. واليوم، يبقى ما أنجبته الثورة من وقائع على طرفي المعادلة السورية فاعلا. ويبقى تصميم الشعب على الحرية مستمرا، وتبقى الحاجة ماسة إلى قيادة ثورية تتخطى في رؤاها وممارساتها قيادات المعارضة، وتتولى أخذ سفينة الثورة إلى بر الحرية، بالاستناد إلى إرادة قوة لم يكن وجودها يخطر ببال أحد، هي: مجتمع سوريا القوي، الذي عرف كيف يتحمل الألم والموت، وكيف يؤسس شروط انتصاره ويحافظ عليها طيلة 4 أعوام بغالي دمائه، وسيعرف كيف يحصد ثمارها في عام ثورته الخامس، ويستردها من الذين اختطفوها.