الدرس الأول؛ حين أنهيت دراسة الدكتوراه قبل عدة سنوات وعدت، كنت أمر بمشاعر مختلفة، فعرض وظيفي هناك ما يزال مطروحاً على الطاولة، ورحلة العودة لم تكن سهلة، فأنا أحتاج لبناء جسور تواصل مع كثيرين ممن هم حولي ومع نفسي التي تركت جزءاً منها هنا وشيئاً منها هناك، مع الشوارع التي تغيرت، مع الزحام، مع الأسواق الجديدة مع عثرات تقابلني، ومع أناس فقدت الاتصال بهم لسبب أو آخر. لا يمكنني أن أكذب عليكم وأقول إن عودتي لمكان عملي السابق كانت عودة موفقة، فمن الصعب عليّ أن أتقبل أن الطالبات مازلن يقمن بنفس التجارب المعملية التي كنت أتدرب عليها في سنوات دراستي الأولى. ومن الصعب عليك لو كنت مكاني أن تغير طريقة تدريس طلبة الدراسات العليا وتخرجها من تكرار معلومات مرحلة البكالوريوس وتدرس الطلبة طريقة التفكير النقدي وكيفية قراءة الأبحاث المكتوبة، ومن الصعب عليك أن تتعامل مع كل ما حولك في بيئة العمل وأنت متذمر تشعر بأنك غريب وتنسى أن إحساس الغربة هذا مصدره أنت. الخطأ مني لا أضع اللوم على أحد، لعلي كنت بحاجة إلى التمازج مع البيئة التي تركتها عدة سنوات ونسيتها، لعلي كنت بحاجة لأن أتخلص من جزء من عنجهيتي التي لا داعي لها وأعرف كيف أصل لما أريد كما أريد وبدون ضجة. لذلك كان قرار ترك المكان والانتقال لمكان آخر هو الحل. لأن تذمري زاد عن حده وأصبح مكرراً وسمجاً وبلا مصداقية. ومع اندماجي في المكان الجديد بدأت أشعر بأنني أتجه نحو حالة من التوافق مع ما حولي، لا أعرف هل هي طبيعة العمل المختلفة والتي تتناسب مع رغباتي في هذه المرحلة؟ فالعمل البحثي يختلف عن العمل في قطاع التعليم، والتدريس في حد ذاته موهبة لا يتقنها الجميع ولا أظن أنني كنت أتقنها آنذاك، والعمل البحثي يعلمك الصبر والتأني والتأمل. أتذكر نفسي في بدايات عودتي، كانت النبرة السلبية سائدة في كل تصرفاتي ومواقفي، كنت أشغل نفسي بكل المشاعر غير المريحة، لأن عينيّ كانتا تبحثان عن العيوب في كل شيء وأحياناً تختلق هذه العيوب. لا أعرف كيف تغلبت على ذلك، لكنني لا أتخيل أنني كنت صحبة جيدة وأهمس في أذنكم قائلة إنني لو عرفت نفسي في تلك الفترة لتجنبتها وما صاحبتها فمن منا يريد أن يحيط نفسه بشخص متذمر ليل نهار. ماهو الدرس الذي تعلمته والذي أحاول تذكير من أتواصل معهم من الطلبة المتناثرين في بقاع الأرض المختلفة يدرسون؟ هو أنك تتغير كما كل ما حولك يتغير لا تترك نفسك تخدعك وتصور لك بأنك تغيرت وتفتحت آفاقك بينما غيرك مايزال يراوح مكانه، لا تتصور أنك أفضل من الآخرين لأنك حصلت على فرصة لم يسعوا لها، وتذكر أنك تحتاج وقتاً حتى تعيد التواصل مع بيئتك التي تركتها وأن تصل لإيقاع حياتي يناسبك ويتواءم مع احتياجاتك. وتذكر أيضا أنك أنت الذي يجب أن يتواءم ويتواصل مع هذه البيئة سواء أكانت بيئة عملية أم اجتماعية.