خيارات الطفل العربي اليوم تقارب الأحلام القومية، إذ يوشكون أن يمارسوا الألعاب ذاتها، ويكررون المصطلحات نفسها، ويحملون رؤى وطموحات تتزاحم لتكون شريطاً مستقيماً واحداً. في سورية يتشكل الأطفال من عجينة الرعب والرصاص والخوف، والتنويع الموسيقي الوحيد الذي يعرفونه الفروق بين القذائف والبراميل وصرخات البنادق. في اليمن يستعد الطفل لأن يجعل علاقته الشكلية بالبندقية ممارسة عملية يومية، وأن الادعاء بمبارزة مع الخصم تنتهي بقتله يصبح نهاية حتمية. في السودان الأطفال لديهم قابلية خاصة لأن يكونوا أعظم اختصاصيي التشريح، فالواحد منهم لا يرى سوى الهياكل العظمية وتفاصيلها، ويعرف معنى تآكل الحياة أمام عينيه حتى تتبخر مثل سحابة دخان. في ليبيا لا يكفيهم امتداد خريطة القبلية حتى تلتئم معه هويات آيديولوجية، تجعل الموت خيار كل الاتجاهات. في لبنان أحدث أنواع التسلية تعذيب الصبية اللاجئين، والناجون من الموت المباشر لا يشاهدون أفلام الكرتون، بل مشاهد القتل وأجزاء الجثث، ويتوجعون لأنين الجرحى المنسيين، أما معجمهم اللغوي فأنواع الأسلحة ومسمياتها، وألعابهم تدريب على القتل والقنص. هذا التعليم الحقيقي الذي يناله الطفل العربي، وسواء انتهت موجة هذه الحروب أم استمرت، فإن العبء ليس إعادة الإعمار فقط، بل معالجة الأطفال من التشوهات النفسية الحادة التي تعرضوا لها، وإعادة تقويمهم حتى لا تتجذر فيهم نزعة القتل ونسف الآخرين. الذين يذهبون إلى المدرسة اليوم لا يعدو وجودهم فيها مثل استراحة بين الدروس، فالتغذية الحقيقية تتوالى في المشاهد التي مدارها حز الرقاب بكل الطرق، وباستخدام كل الوسائل، بما فيها السكين التي اعتاد الأطفال فهم وظيفتها، وأنها لتقطيع الفاكهة ومساندة الشوكة في عملها، ليتبينوا أن جوهر عملها شلال من الدماء إن تمددت على الرقبة. إلى أي مدى سيكون أطفال سورية طبيعيين، خصوصاً الذين بدأوا تذوق متعة القتل وتمييز أصوات الرصاص وهو يمرق بجانب الأذن، والنشوة الطاغية حين يتهاوى جسد كان واقفاً من دون أن يستعد للسقوط؟ ما الحصانة التي تمنع أطفالاً من الانجراف مبكراً إلى الإرهاب، وهم يتعايشون مع واقع يدعو إليه بعض معلميهم، فلا يكون ثمة حاجة إلى وسائل إيضاح وحجج إقناع؟ ما الحكايات التي يتناولها أطفال الربيع العربي سوى ذكرى صديق سقط غدراً، أو التباهي بعدد الضحايا الذين تم قنصهم؟ ألفة الحرب والموت تجعل الحياة رخيصة مثل علبة غازية فارغة، لكن الأخطر أنها تخلخل منظومة القيم الأخلاقية وتؤسس لمشروع هجين، مع نتاج الفوضى سيكون فريداً ومختلفاً، لأنه لم يسبق للبشرية أن تعايشت مع الحرب بصورة تشبه برامج الواقع، ولم يسبق أن تآلفت معها إلى درجة أن تحذير الأطفال من المشاهد المروعة لم يعد ذا نفع، فالنشرات مصطبغة بالدماء والجثث، حتى أضحى للذباحين جمهور حالهم حال الفائزين بالمسابقات الغنائية، إلا أنهم لا تصويت لهم ولا جوائز!