يستوقف المتتبع لمسيرة تاريخ تعليم المرأة السعودية شواهد عدة دلت على اهتمام ولاة الأمر – حفظهم الله – بها بوصفها ركيزة مهمة في بناء المجتمع، كدعم إنشاء كتاتيب المرأة في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود – تغمده الله بواسع رحمته – لتعليمها أمور دينها ودنياها، وإقرار التعليم النظامي للبنات عام 1379هـ، وما أعقب ذلك من نهضة تعليمية شاملة جعلتها شريكا فاعلا في تنمية الوطن في ضوء ما نصت عليه تعاليم الدين الإسلامي، وناسب فطرتها الإنسانية. والكتاتيب هو الاسم التقليدي لمدرسة تعليم القراءة والكتابة، وتعد من المؤسسات التعليمية المهمة التي أوجدتها المجتمعات الإسلامية لتعليم الصغار وتربيتهم التربية الإسلامية الجيدة، واهتم المسلمون بها على مر العصور لتعليم النشء القرآن الكريم، والحديث، والقراءة والكتابة، وتوارث الآباء والأجداد هذه البادرة الخيّرة حتى بدايات بناء الدولة السعودية الثالثة التي جعلتها تشمل الأسرة كاملة، حيث تطورت فيما بعد إلى مدارس شبه نظامية، فمدارس تعليم عام نظامي، ثم تعليم جامعي متعدد التخصصات. وعلى الرغم من انشغال الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – بعد توحيد البلاد ببناء الدولة وتأسيس أنظمتها الداخلية والخارجية، إلا أنه لم ينفك عن التفكير في تعزيز مكانة المرأة في المجتمع أسوة بالرجل، وفق القيم والمبادئ الشرعية، فدعم إنشاء أكثر من 180 دارًا للكتاتيب بالإضافة إلى الدور التي كانت موجودة قبل عهده – رحمه الله – التي انضم إليها العديد من النساء لتعلم علوم الدين الشرعية والحياتية. واهتمت أصحاب السمو الأميرات في عهد الملك عبدالعزيز، بالعلم الشرعي، وعملن على نشره من خلال جعل ما يقتنين من مخطوطات وكتب فقهية تاريخية “وقفًا خيريًا على طلبة العلم”، كما فعلت حرَم الملك المؤسس الأميرة حصة بنت أحمد السديري – يرحمها الله – التي جعلت مخطوطة (الفروع في الفقه) للشيخ الحنبلي شمس الدين محمد بن مفلح المتوفى سنة (763 هـ) وقفا على طلبة العلم ليستفيدوا منها.دون أن تُباع عليهم، بالإضافة إلى أوقاف سارة بنت الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وبنات الإمام تركي بن عبدالله، وبنات الإمام فيصل بن تركي، تحتفظ دارة الملك عبدالعزيز بنسخ منها. وكانت الكتتايب بادرة خير على المرأة السعودية في ذلك العصر، إذ تعلمت الكبيرات والصغيرات فيها المزيد من المعارف الشرعية والدنيوية التي تواءمت في مضامينها مع مستوى أعمارهن، فقالت أستاذة علم التاريخ عضو مجلس الشورى الدكتورة دلال بنت مخلد الحربي: إن الكتاتيب في عهد الملك عبدالعزيز اهتمت في منظومتها بتعليم النساء الكبيرات اللاتي كن منشغلات عن التعليم في أمور بيوتهن، وتحمل صعوبات الحياة مع الرجل، فتم تدريسهن القرآن الكريم، وحفظ سوره القصار، والتفقّه بأحاديث السنة النبوية الشريفة. وأشارت في حديث لـ”واس” إلى أن الكتاتيب اهتمت كذلك بتعليم الفتاة التي كانت تشارك أسرتها وهي في سن مبكرة من عمرها شظف العيش، وقلة الإمكانيات في ذلك الزمان، لتسهم بتعليمها في صياغة مستقبل الأمة بوصفها المربية للنشء، فتعلمت الفتيات علوم القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومبادئ القراءة والكتابة، ليتطور الحال بعدها على مر السنين إلى أن التحقن بالمدارس شبه النظامية التي كانت منتشرة في المملكة في ذلك العهد. وأفادت أن تأثير الملك عبدالعزيز – رحمه الله- في تطور تعليم المرأة السعودية كان واضحاً في عهده، مستشهدة في ذلك السياق بوثيقة تاريخية أوضحت أنه – يرحمه الله – ساند مشروعًا تنمويًا رُفع إلى مجلس الشورى في 21 صفر 1350هـ، يتعلق بإصلاح كتاتيب المرأة في منطقة الحجاز، والاستزادة منها ومعاونتها قدر الإمكان. في مقابل ذلك، فقد برز في الجزيرة العربية العديد من الفقيهات اللاتي حرصن على تعليم المرأة بالأمور الشرعية خاصة في مكة المكرمة والمدينة المنورة بسبب وجود الحرمين الشريفين، ووفقًا لأستاذة التاريخ الإسلامي الحضاري بجامعة الملك سعود الدكتورة سعاد بنت أحمد العمري، فقد عمل العديد من الفقيهات على تخصيص غرف للكتاتيب في منازلهن لاستقبال الراغبات في تعلّم القرآن الكريم وحفظه، وبلغت في عهد الملك المؤسس أكثر من 180 دارًا للكتاتيب في مختلف أرجاء البلاد. وقالت العمري في حديث لـ”واس” : إن دور كتاتيب المرأة خلال عهد الملك عبدالعزيز بلغت في منطقة الحجاز ( 70 دارًا) موزعة على : مكة المكرمة في أواخر القرن الـ 13 الهجري بواقع ( 45 دارًا)، وفي مطلع القرن الـ 14 الهجري في المدينة المنورة (11) ، وجدة ( 21)، والوجه ( كتاتيب واحدة)، وينبع ( اثنتان من الكتاتيب) بينما بلغت في النصف الأول من القرن الـ 14 الهجري في الطائف (أكثر من 5 كتاتيب). وأشارت إلى أن عدد الكتاتيب في المنطقة الوسطى بلغت أكثر من 82 دارًا للكتاتيب، موزعة على القصيم ( 35 دارًا في أواخر القرن الـ 13 الهجري) وفي كل من : الدرعية، والعيينة، وحريملاء ( كتاتيب واحدة لكل محافظة خلال القرن الـ 13 الهجري ومطلع القرن الـ 14 الهجري) وفي الرياض ( خمسة كتاتيب في القرن الـ 14 الهجري). وأضافت أن عدد الكتاتيب في المجمعة وقراها بلغت ( 9 كتاتيب في مطلع القرن الـ 14 الهجري) وفي الزلفي ( 7 كتاتيب في مطلع القرن الـ 14 الهجري)، وفي النصف الأول من القرن الـ 14 الهجري بلغت عددها في الخرج وقراها ( أكثر من 16) وفي الحوطة ( خلال النصف الثاني من القرن الـ 14 الهجري 7 كتاتيب). أما في المنطقة الشرقية فقد أبانت الدكتورة العمري أن عدد الكتاتيب بلغت أكثر من 16 دارا للكتاتيب، موزعة على الأحساء والهفوف ( أكثر من 10 كتاتيب في أواخر القرن الـ 13 الهجري)، وأكثر من خمسة كتاتيب خلال منتصف القرن الـ 14 الهجري موزعة على : المبرز، والشماسية، والقطيف، والدمام. ولفتت النظر إلى أن المنطقة الشمالية بلغ عدد كتاتيبها ( 8 كتاتيب) خلال النصف الثاني من القرن الـ 14 الهجري موزعة على حائل ( 3 كتاتيب) وحفر الباطن (كتاتيب واحدة) والجوف ( اثنتان من الكتاتيب) والقريات ( اثنتان من الكتاتيب). وفي المنطقة الجنوبية بلغ عددها أكثر من 8 كتاتيب خلال النصف الثاني من القرن الـ 14 الهجري، موزعة على : أبها (اثنتان من الكتاتيب) وعسير ( كتاتيب القرعاوي) والباحة ( لم يحدد) وبيشة (اثنتان من الكتاتيب) ونجران (اثنتان من الكتاتيب) وجازان ( اثنتان من الكتاتيب). ومرّت مسيرة تعليم المرأة السعودية بعد ذلك بمرحلة المدارس الأهلية والخيرية شبه النظامية التي كان معظمها منتشرًا في الحجاز، ثم انتقلت لما يعرف بمرحلة التعليم النظامي الذي واكب تأسيس الرئاسة العامة لتعليم البنات، حيث أصدر الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله- أمرًا ملكيًا يقضي بإنشاء الرئاسة العامة لتعليم البنات في تاريخ 2 / 4 / 1379هـ. وشملت القطاعات التعليمية التابعة للرئاسة آنذاك: دور الحضانة، ورياض الأطفال، والتعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي، ومراكز للتدريب على التفصيل والخياطة والمعاهد الثانوية المهنية، ومدارس تحفيظ القرآن الكريم، والتعليم الخاص، والكليات المتوسطة، ومدارس محو الأمية والتعليم الأهلي، والتعليم العالي، بالإضافة لخدمات الرعاية الصحية، وخدمات النقل، والخدمات الاجتماعية. ونشرت “صحيفة أم القرى” في 21 ربيع الآخر عام 1379هـ، الأمر الملكي الذي أصدره الملك سعود – رحمه الله – لإنشاء مدارس لتعليم البنات في المملكة، بحيث تُعنى بتدريس العلوم الشرعية، وغير ذلك من العلوم التي تتوافق مع العقيدة الإسلامية وتنفع المرأة في كيفية تدبير بيتها، وتربية أبنائها. ووجد ذلك الأمر الملكي ترحيبًا كبيرًا من الشعب السعودي، حيث عبروا في تصريحات نشرتها “صحيفة أم القرى” في 28 ربيع الآخر عام 1379هـ، عن سعادتهم بهذا الأمر، مبينين أنه سيسهم في تفقيه المرأة بكيفية بناء الأسرة والمجتمع على نحو أفضل. وامتدادًا لدعم ولاة الأمر لتعليم المرأة السعودية، فإنه يوجد الآن أكثر من 5ر2 مليون طالبة يدرسن في مختلف مراحل التعليم العام، ويتلقين تعليمهن على يد (300750) معلمة في 18710 مدارس للبنات في محافظات ومناطق المملكة، كما يدرس منهن (192ر515 طالبة في البكالوريوس) و (498ر24 طالبة في الدراسات العليا) موزعات في أكثر من 300 كلية ومعهد عالِ في المملكة، وتمثل المرأة ما نسبته 8ر51 % من إجمالي من طلبة الجامعات الحكومية و 49 % من طلبة الجامعات الأهلية، وأكثر من ثلث مبتعثي برنامج الملك عبدالله بن عبدالعزيز للابتعاث الخارجي، بحسب إحصائيات وزارة التعليم. وتوثيقًا لتلك المحطات المهمة في تاريخ تعليم المرأة السعودية، فقد أنجزت دارة الملك عبدالعزيز مؤخرًا، تركيب 225 قاعدة عرض زجاجية في عمادة المكتبات بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، ضمت العديد من المواد ذات العلاقة التاريخية بتعليم المرأة في الدولة السعودية الأولى التي تأسست عام 1157هـ، حتى بداية التعليم النظامي في المملكة 1379هـ. وانتهت الدارة ممثلة في مركز المخطوطات المحلية ومركز الملك سلمان بن عبدالعزيز للترميم والمحافظة على المواد التاريخية من إنجاز متطلبات العمل خلال 11 شهراً، شملت جمع المواد التاريخية والوثائق والمخطوطات المناسبة، وفحصها وصيانتها وتعقيمها، وترميمها، وتجليدها، بما يضمن بقاؤها للعرض لسنوات طويلة. وقام فريق العمل المكلف من الدارة بجمع 112 مجلداً يبلغ فيها عدد العناوين للمخطوطات الأصلية 50 عنواناً شملت مخطوطات منسوخة أو مملوكة لأشخاص في فترتي الدولة السعودية الأولى والثانية، وترتبط بتعليم المرأة خلال ثلاثة قرون مضت، وتبين دورها كمعلمة، وداعية، وواقفة للكتب لطلاب العلم. وجلبت دارة الملك عبدالعزيز تلك المواد التاريخية المنسوخة من 13 مصدراً من المكتبات الخاصة والعامة، والأرشيف الحكومي، ومخطوطات ووثائق الجامعات والمتاحف الشخصية ومتاحف المدن، علاوة على اقتناء 100 قطعة أثرية أصلية تتصل بالقراءة والكتابة.