قبل اغتيال المعارض الروسي بوريس نيمتسوف بأقل من شهر تقريباً، وقع الرئيس فلاديمير بوتين اتفاقاً مع الرئيس القبرصي نيكوس انستسادس يُسمَح بموجبه لبوارج الأسطول الروسي باستخدام ميناءي ليماسول ولارنكا. كما يسمح أيضاً للطائرات الروسية باستخدام القاعدة العسكرية في بافوس. في مقابل هذه المواقع الإستراتيجية المتقدمة على شاطىء البحر المتوسط، تكفلت موسكو بتسديد ديون قبرص اليونانية بضمانة البنك المركزي. وكان من الطبيعي أن تهاجم الصحف الأوروبية هذا الاتفاق السري الذي يُفترض بحكومة قبرص إبلاغ دول «الناتو» به. وأعربت الحكومة البريطانية عن قلقها من تأثير هذا التعاون في التسهيلات المعطاة لها في الجزيرة. ذلك أنها تؤمن وجود 3200 جندي منذ العام 1975 في قاعدتي اكروتيري وديكليا، إضافة الى فرقة مؤلفة من أربعمئة طيّار يتناوبون على الانطلاق من هاتين القاعدتين لضرب أهداف في «الدولة الإسلامية» داخل العراق وسورية. ويتضمن الاتفاق، الذي وقعه في موسكو الرئيس القبرصي، بنداً خاصاً يسمح للرعايا الروس الذين نقلوا ثرواتهم إلى المصارف العاملة في القطاع اليوناني، بالمساهمة في تطوير المشاريع المحلية. كذلك أعفاهم بوتين من الملاحقة التي تُمارس على الرعايا الفارين من دفع الضرائب في أي بلد آخر. ويتردد في بيروت أن جزءاً من تلك الثروات دخل في حسابات سرية عبر الفروع المصرفية الناشطة في قبرص خارج رقابة الولايات المتحدة. الغاية من وراء هذه النقلة المفاجئة، كما يفسرها الديبلوماسيون، الالتفاف على المحاولات الجارية من أجل إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد. أي المحاولات التي تقوم بها واشنطن وأنقرة وبعض دول الخليج، ما ينتهي - في حال نجاحها - إلى إلغاء الاتفاق الذي يسمح للأسطول الروسي باستخدام ميناء طرطوس. ورغم استمرار تدفق السلاح إلى الجيش السوري النظامي، فإن طائرات النقل العملاقة تقوم بمهمة إجلاء الرعايا الروس المقدَّر عددهم بثلاثين ألف نسمة. وكان وزير الخارجية سيرغي لافروف أشار في كانون الأول (ديسمبر) الماضي إلى خطة إجلاء الرعايا من سورية، عقب إقفال القنصلية في حلب. لكنه حرص على إبقاء السفارة في دمشق مفتوحة، ولو أنه أمَر بتقليص عدد العاملين فيها. والثابت أن الرئيس بوتين يريد توسيع دائرة الحرب الباردة مع الدول الغربية بهدف الابتعاد من أوكرانيا عقب سقوط ستة آلاف قتيل من الفريقين. أي من الانفصاليين ودعاة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وهو بالطبع يطمح إلى استعادة نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق في منطقة الشرق الأوسط. لذلك وطّد علاقته بإيران، وأمَّن لها السلاح المطلوب، وساعدها في بناء المفاعل النووي. وحدث أثناء الخلاف القبرصي - التركي في العام 1963 أن تعاطف الاتحاد السوفياتي مع الرئيس المطران مكاريوس، وأيّده في الدعوة الى إجراء تعديلات دستورية تخفف من تناقضات الدستور الذي وضعه البريطانيون في زوريخ في العام 1961. وبما أن التعديلات التي اقترحها مكاريوس كانت تحد من صلاحيات نائبه التركي، فقد دعا قادة القبارصة الأتراك إلى تقسيم الجزيرة. وساندهم في هذا التوجه موظفو الجالية الذين استقالوا من إدارات الدولة في شكل جماعي. وكان من الطبيعي أن يقود هذا الانشطار القومي - الديني الى تمزق ثوب الوحدة الأهلية، ما أدى إلى نزاع مسلح بين الفريقين. وأفرز مناخ التوتر منظمات مسلحة عدة أبرزها حركة «ايوكا» بقيادة الكولونيل المتقاعد جورج غريفاس. وساد مناخ الاضطراب في الجزيرة مدة طويلة، خصوصاً بعدما رفض الرئيس مكاريوس الإذعان لطلب الإدارة الأميركية في حق استخدام مرافئ قبرص قواعد بحرية للأسطول الأميركي وغواصاته. وقد أطلعني المطران، أثناء إجراء سلسلة أحاديث معه نشرتها في جريدة «الصفاء»، على رسائل الممانعة التي بعث بها إلى واشنطن. كانت 1974 سنة الحسم في قبرص وراعيتها اليونان. ذلك أن هنري كيسنجر الذي أقلقه موقف رئيس الحكومة اليونانية جورج باباندريو بسبب ميوله اليسارية وتهديده بالانسحاب من «الناتو»، ردَّ عليه بتحريض العسكر على القيام بانقلاب أنهى حكم الملك قسطنطين. وبعدما فرّ الملك إلى روما، طمأن زعيم الانقلاب الكولونيل جورج بابادوبولوس، كيسنجر الى تجديد التعاقد حول القواعد العسكرية. ووجد مكاريوس في هذا التغيير نهاية مزعجة لملك كان يعتبره الحليف القوي الداعم لسياسته. لذلك اضطر إلى الاستنجاد بموسكو، خصوصاً بعدما بلغه أن تركيا تحشد قواتها لغزو الجزيرة. والثابت أن الاتحاد السوفياتي حاول رفع معنويات مكاريوس عندما أمّن لقواته صفقة صواريخ حملها أنصاره على أكتافهم في مظاهرات التأييد. وعندها أمر رئيس الحكومة التركية بولنت أجاويد القوات المستنفرة بتنفيذ خطة الغزو التي شطرت الجزيرة، وتسببت في فرار مئتي ألف مواطن قبرصي يوناني إلى الجهة الأخرى. واليوم، يكرّر التاريخ نفسه بين موسكو ونيقوسيا. ويرى المراقبون أن بوتين يجدد من قصر الكرملين ما فعله سلفه ليونيد بريجينيف في السبعينات، من دعم لحكومة قبرص اليونانية. والسبب أنه يريد حجب تجاوزاته وتدخله في أوكرانيا، ونقل معركة المواجهة إلى بوابة الشرق الأوسط. وقد تصدى له في هذا الشأن غريمه السابق ومنافسه على زعامة روسيا بوريس نيمتسوف. واللافت أن المنافسة بينهما لم تقتصر على الجانب السياسي فقط، وإنما تجاوزته لتصبح منافسة على استمالة الجميلات والافتخار بـ «الدونجوانية». ذلك أن عملية الاغتيال تمت في حضور عشيقة المغدور عارضة الأزياء الأوكرانية الحسناء آنا دوريتسكايا. وقد استدعاها المحقق للوقوف على شهادتها. في حين كان يفخر بوتين بأنه استمال بطلة الألعاب الأولمبية آلينا كابايفا، قبل أن يطلق زوجته التي أنجب منها ابنتين هما ماشا وكاتيا. ويرجع تاريخ هذه المنافسة الحادة إلى عهد الرئيس بوريس يلتسن، عندما كان نيمتسوف نائباً لرئيس الوزراء، والموظف الكفؤ الطامح إلى وراثة رئيس الجمهورية. وكان يتهم بوتين بسرقة مستقبله، معتمداً في ذلك على جيش من موظفي الاستخبارات. ومنذ دخول بوتين إلى مقر الكرملين، لم يتوقف نيمتسوف عن انتقاده، خصوصاً أنه ارتبط بالقاعدة الأوكرانية التي أعلنت «الثورة البرتقالية» ضد سياسة بوتين. وذكرت الصحف أنه كان يجمع الأدلة على تورط القوات الروسية في الحرب الأوكرانية مباشرة، على أمل نشرها في كتيب يفضح فيه دور الرئيس. كل الصحف وتعليقات المحللين اتهمت بوتين بالوقوف وراء الجريمة. وقد استندت في أحكامها إلى سجله الأسود، وإلى القائمة التي شهدت انتقاماته. ففي سنة 2006 توفي المعارض ألكسندر ليتفينينكو مسموماً بأشعة البولونيوم. وفي السنة ذاتها اغتيلت الصحافية آنا بوليتكوفسكيا. وبعد فترة قصيرة مات المحامي سيرغي ماغتسكي تحت التعذيب. ثم تبعهما ماركيلوف انستازيا. والقائمة الطويلة تشهد أن بوتين كان يلاحق خصومه في المدن الأوروبية مثل لندن وجنيف. وهذا ما عزز الشكوك بأنه هو الذي خطط لتصفية غريمه الأكثر شعبية. السؤال الذي طرِح عقب تنفيذ الجريمة يتعلق باهتمام الرئيس بوتين بإجراء تحقيق شفاف مع القاتل - في حال اكتشافه - وتخصيص جائزة مغرية لمن يساعد اللجنة الخاصة المشرفة على التحقيق. لكن السوابق لا تدل على أن بوتين كان مهتماً بالرأي العام، وخائفاً من ردود فعل الشارع الذي شهد عاصفة احتجاج تمثلت بوجود أكثر من سبعين ألف نسمة. ويستغرب الناطق باسم الكرملين ديمتري بسكوف كيف أشرف الرئيس بوتين على ملف التحقيق، واعداً والدة القتيل باستخدام كل الوسائل المتاحة من أجل اكتشاف المحرِّض الحقيقي. ويشير هذا الكلام الى صدق اقتناع بوتين بأن عملية الاغتيال خُططت بمهارة فائقة، ونُفذت على بعد أمتار من الكرملين، بحيث تكون قرائن الاتهام جاهزة ضده، وغير قابلة للنقض. ولو صدقت هذه الفرضية، ماذا يجني القاتل الحقيقي من حادث الاغتيال؟ يذكرني هذا السؤال بحادثة وقعت في الاتحاد السوفياتي خلال النصف الأول من الستينات. وقد كشف عن تفاصيلها الديبلوماسي المصري حسين أحمد أمين أثناء عمله في السفارة في موسكو. وكتب يقول: «تشاغلت الاستخبارات السوفياتية في محاولة اكتشاف الهوية الحقيقية لاثنين من الروائيين الروس يبعثان سراً بكتابات معادية للنظام الشيوعي إلى الغرب، فتنشر مترجمة تحت اسمَيْن مستعارَيْن... وفي العام 1966، نشرت صحف موسكو نبأ اعتقال الكاتبَيْن دانيال وسبغيافسكي، مع الإشادة بجهود الاستخبارات التي اكتشفتهما». ويكمل الأستاذ حسين أمين: «تمضي الأيام فأعود إلى مصر. ولدى تصفحي مجلة نيوزويك، قرأت عن الشاعر السوفياتي المعروف يفغيني توشينكو، وعن الضجة التي أثارها لقاؤه مع روبرت كيندي. وفي ذلك اللقاء اعترف له النائب العام بأن وكالة الاستخبارات الأميركية (سي اي ايه) هي التي وَشت على الكاتبَيْن». ولما انتفض الشاعر محتجاً ومتسائلاً: «لماذا؟ ولمصلحة مَنْ؟»، أجابه كيندي بأن «ما يهم وكالة الاستخبارات ليس الكاتبَيْن، وإنما وقوع النظام في الفخ الذي نصبته له من طريق زعزعة سمعة النظام الشيوعي، بأنه يعارض حرية الكلمة وحرية الانتقاد». وبالمقارنة بهذه الحادثة، فإن بوتين يميل إلى اتهام الاستخبارات الغربية التي فشلت في إسقاطه. لذلك دبرت له المصيدة كي تسقطه عبر التظاهرات المتواصلة... والتي يقودها بوريس نيمتسوف من قبره!