سلكت بعض جامعاتنا السعودية، وربما الكثير من جامعاتنا العربية، مسلكا اعتمدت فيه منح الدرجات العلمية العليا على ما يقوم به طلابها من تحقيق لكتب التراث في مختلف جوانب العلوم، وخصوصا تلك المتصلة بعلوم الشريعة واللغة العربية، والتحقيق علم لا مجال للتشكيك فيه كما لا مجال للمراء فيما يتحقق من خلاله من وصل بالتراث وإحياء لجهود مجهولة فيه وتعريف بعلماء لهم على الأجيال المتلاحقة حق التعريف بهم، التحقيق علم له أصوله ومناهجه ومدارسه، كما أن له علماءه والمختصين فيه، التحقيق علم قائم بذاته، غير أنه لا يمكن له أن يكون علما يتوسل به للتخصص الأكاديمي في علم سواه، فليس لنا أن نرى ــ على سبيل المثال ــ فيمن حقق كتابا في النحو نحويا أو كتابا في الفقه فقيها، وهذا يعني أن ما تقوم به جامعاتنا، سواء كانت سعودية أو عربية، هو تخريج أجيال مختصة في علم واحد، ثم الزج بهم في العلوم المختلفة التي يعتبر الكتاب الذي حققه هذا الباحث أو ذاك كتابا من كتب فيها، وليس لأحد أن يرى أن في مطابقة النسخ وتخريج النصوص ودراسة تنزل منزلة التقديم لهذا الكتاب ما يمكن أن يمنح الباحث حق الاختصاص في هذا العلم أو ذاك، بما يقتضيه الاختصاص من علم وما ينبني عليه من اعتماد لمناهج وما يفرضه من اقتدار على تطوير البحث فيه وتجديد في الأدوات التي يتم اعتمادها عند دراسته. وحسبنا كي تزداد هذه الرؤية وضوحا أن نتساءل عما إذا كنا سوف نتقبل أن تعتمد كليات الطب تخريج طالب فيها أعد رسالته في تحقيق أحد شروح كتاب الشفاء لابن سينا، أو نتقبل اعتماد كليات الهندسة تخريج طالب عثر على مخطوطة لأحد كتب البيروني وقام بتحقيقها؟ وليس لنا أن نذهب إلى أن العلوم الإنسانية تختلف عن العلوم الطبيعية، إلا إذا كنا ممن لا يؤمن بتطور العلوم وتجدد المعارف، وعندها يمكن أن نرى في التحقيق الذي تعتمده بعض الجامعات وسيلة للحجب تحول دون تطوير المعرفة، وتتستر على إقصاء الباحثين عن المناهج التي تدرس العلوم المختلفة بناء عليها والاكتفاء بعملية تدوير المعرفة بدل تطويرها، وعندها لا يصبح التحقيق علما، وإنما حجاب يحول دون العلم.