قال أحد الناظمين : «قبورنا تبنى ونحن ما تبنا يا ليتنا تبنا من قبل أن تبنى. وقد أعجبني في نظمه التورية اللطيفة بين كلمتي «تبنى» التي هي من البناء وجاء الفعل مبنيا للمجهول و«تبنا» التي هي من التوبة، وقد ألحق بالفعل تاب ناء الفاعلين، والناظم يتحسر على الإنسان الذي يغفل عن التوبة النصوح فلا يتوب ولا ينوب، فيما يكون الموت أدنى من شراك نعله وأن هناك من بنى قبره وجهزه له فجاء تحسره في عجز البيت «يا ليتنا تبنا من قبل أن تبنى»، والتورية من أساليب البلاغة التي يطرب لها السامعون، وهي عادة ما تأتي خفيفة لطيفة وهذا ما ينطبق على البيت المنظوم الذي جاء في مقدمة المقال. وذات يوم كنت مدعوا لحفل زفاف أحد أبناء العالم المكي الزاهد المدرس بمدارس الفلاح فضيلة الشيخ محمد نور سيف، رحمه الله، وكان فضيلته جاري وجداره هي جداري، فرأيته يقف متوكئا على عصاه يرحب بنفسه بجميع الضيوف، فنزل من إحدى السيارات الفخمة السيد أمين عطاس الوكيل الأسبق لوزارة الحج والأوقاف لشؤون الأوقاف، وهو فلاحي من طلبة الشيخ محمد في الفلاح فهش له وبش وحياه بما يستحق، فالتفت السيد العطاس إلى سائقه الخاص وقال له «روح يا سليم الآن وتعال بعد ساعتين»، فتدخل الشيخ سيف بين السيد وسائقه وقال: سليم ينصرف ولكنه هنا لا ينصرف! ففهم السيد العطاس التورية اللغوية اللطيفة التي حضرت في ذهن الشيخ فأطلق ضحكة مدوية وقال له: حتى في هذا الموقف يا شيخنا تحضرك قواعد النحو والأسماء المبنية والمعربة، ثم أمر سائقه بالبقاء للمشاركة مع المدعوين في تناول طعام الغداء، حيث كانت معظم موائد حفلات الزفاف تقام بعد صلاة الظهر فلا يأتي المغرب إلا والعروس في بيت عريسها قبل حلول الظلام. وكان أحد المطربين القدامى يغني بيتا من الشعر فيه تورية، ولكنه لم يكن يدرك تلك التورية فيردد الكلمتين الواردتين بمعنيين لكل منها على أساس أن كلا منها تكرار للأخرى، ولم يجد من ينبهه فظل يؤدي البيت خطأ حتى آخر قطرة وكان البيت الغنائي يقول : آه يا عيوني عيوني آه يا جفوني جفوني فعيوني الأولى هما عيناه وعيوني الثانية مشتقة من الإعياء، ولكن المغني غابت عنه الفطنة فلم يدرك جمال التورية التي أرادها الشاعر الغنائي القديم.