في تلك البقعة الجغرافية الخطيرة، التي تجمع بين مستقبل ومودع، بين دمعة قاتلت حتى الخروج والتعبير عن حزن الوداع القصير والطويل؛ وبين انتظار وصول الصديق والحبيب والقريب، لتشترك الأحضان ببعضها عازفة على قيثارة الفرح لحنا على مقام البيات، لعل من وصل للتو يبيت بالقرب منا دائما ولا يفكر بالعودة إطلاقا.. وفي الزاوية البعيدة أحدهم يرسل حقائبه المليئة بالذكريات إلى المكان البعيد الذي سيجد فيه وقتا كافيا لتذكر كل الأشياء، وآخر يجرُّ عربة محملة بالحقائب الخاصة بالهدايا، الشهادات.. والشقاء على شكل نجاحات!. زار الأدباء المطارات ما بين مغادرة وقدوم، تلك اللحظات التي تلهم الأديب قافيته، وتوفر له الوقت لتدوينها - خاصة إذا كان صاحب حظ ولم يجلس بجانب ثرثارين - كل المشاعر التي قد تخطر على عقل أكثر الناس عاطفة؛ قد حضرت بقالب شعريّ.. يقول شاعر العرب وشاعر المواطن والحرية؛ أحمد مطر شاعر كل شيء جميل: "في مطار أجنبيْ حدّق الشرطيُّ بيْ قبل أن يطلب أوراقي ولمّا لم يجدْ عندي لسانا أو شفَهْ زمَّ عينيهِ وأبدى أسفهْ قائلا : أهلا وسهلا يا صديقي العربي..! ومن مطر إلى نزار قباني، الذي صوّر لنا الحب على ارتفاع ثلاثين ألف قدم، وكيف يرى الإنسان عواطفه من هذا الارتفاع فيقول: الطائرة ترتفع أكثرَ وأكثرْ وأنا أحبك أكثرَ وأكثرْ إنني أعاني تجربة جديدة تجربة حب امرأة على ارتفاع ثلاثين ألف قدم بدأت الآن أفهم الصوفيّة وأشواق المتصوفين من الطائرة يرى الإنسان عواطفه بشكل مختلف يتحرر الحب من غُبار الأرض من جاذبيتها من قوانينها يصبح الحب كرة من القطن، معدومة الوزن الطائرة تتزلق على سجادة من الغيم المنتف وعيناك تركضان خلفها كعصفورين فضوليين يلاحقان فراشة" فيما ينقل لنا محمود درويش تجربته المختلفة في المطار تحت عنوان "جواز السفر " القصيدة التي يقول فيها: "لم يعرفوني في الظلال التي تمتص لوني في جواز السفر وكان جرحي عندهم معرضا لسائح يعشق جمع الصور كل العصافير التي لاحقت كفي على باب المطار البعيد كل حقول القمح، كل السجون، كل القبور البيض كل الحدود، كل المناديل التي لوّحت، كل العيون كانت معي؛ لكنهم قد أسقطوها من جواز السفر!" أما غازي القصيبي، الأديب الذي عدل بين جميع المطارات والرحلات والوجوه فيقول: "جميع المطارات عندي سواء جميع الفنادق عندي سواء وكل ارتحال قبيل الشروق وبعد المساء سواء وكل الوجوه تطاردني عند كل وداع تلاحقني عند كل لقاء سواء ففيم العناء؟" ومن على عصب التحكم في الرحلات، من برج المراقبة كتب عبدالحكيم الفقيه: " بلا مودعين في المطار يذرفون دمعهم بلا مرحبين في المطار يفرحون راحلا كقشة على المياه قادما كمزقة من البياض في الرياح!" أما غادة السمان التي من الواضح أنها انتقت في رحلتها تلك على طرف جناح الطائرة، تنظر إلى الفضاء وتحتها الطيور تغازل الغيوم، جعلت خلفها الطائرة لكي لا تحجبها عن شيء، تقول في قصيدتها: "أمشي وحيدة على أرض المطار وسعيدة لم يودعني أحد في المطار السابق، ولا ينتظرني أحد في المطار الآتي، وما من مخلوق يتبعني وحده موظف الأمن في المطار يسألني: ما اسمك؟ اسمي الحرية.. الحرية!"