كانت الرحلة العلمية الثقافية التي اشتركت فيها برفقة الزملاء إلى منطقة الجوف ثرية ومفيدة على المستوى المعرفي والترويحي، ليس فقط في التعرف على منطقة لم أزرها من قبل، بل أيضاً في مقابلة أناس من أبناء تلك المنطقة، أو من المشتغلين في دوائرها الحكومية والخاصة ممن كانوا يتصفون بالنبل والكرم وسعة البال والبصيرة الثاقبة. بدأنا رحلتنا فيها من عاصمة المنطقة مدينة سكاكا، التي تجولنا فيها، وتعرفنا على آثارها من القلعة الشامخة إلى آبار الري القديمة التي بناها الآراميون أو الأنباط في القرون الميلادية الأولى. وكانت متقنة الصنع، وتدل على الاستيطان الحضري المهم فيها خلال تلك الحقبة. وفي اهتمام حديث من القائمين على المنطقة حالياً بالمياه أيضاً شاهدنا بحيرة صناعية، أقيمت لتحفظ المياه لوقت حاجتها في الزراعة والري، بالإضافة إلى التخطيط لإنشاء رياضات مائية فيها، كما سمعنا من المرشد السياحي عنها. وفي المدينة التاريخية الكلاسيكية المعروفة دومة الجندل اطلعنا على الحصن التاريخي المسمى مارد والمشهور في شمال شبه الجزيرة منذ الصراع بين الممالك الآرامية خلال الحقبة السابقة لسيطرة الرومان على المنطقة. وهو يشرف على المدينة القديمة، التي لم يعد لها من مقومات سوى أطلال بعض المنازل المهدمة. وقد اهتمت دائرة الآثار بمسجد ينسب إلى عمر بن الخطاب، ويقال إنه أمر ببنائه خلال مروره بدومة الجندل في طريقه إلى الشام لاستلام القدس بعد فتحها. أما يومنا الثاني، فقد قضيناه في ضيافة الشركة الوطنية. ومن خلال تلك الزيارة تعرفنا على قضايا ربما عرفها أكثرنا لأول مرة في شؤون الزراعة والتصنيع الغذائي وتربية المواشي؛ منها ما يتعلق بتصنيع المنتجات العضوية، التي لا تدخل الأسمدة الكيماوية، ولا أدوات الرش بالمبيدات الحشرية إليها. وهي بالطبع كما يعرف المتخصصون مفيدة وغنية بمكوناتها الطبيعية، التي لم تدخل إليها المواد الحافظة أو الإضافات المؤذية للصحة والمقللة للقيمة الغذائية. لكن ما كان قد بهر الزملاء هو تكامل هذه المنظومة الزراعية بإنتاج الحشرات النافعة في معامل خاصة؛ تربى فيها البيوض، حتى تتحول إلى يرقات ثم حشرات كاملة، لتستخدم وقت الحاجة في مقاومة الحشرات الضارة عند غزوها المحاصيل الزراعية، فلا يكونون بالتالي بحاجة إلى مقاومة تلك الآفات بالمبيدات الضارة للتربة والإنتاج والإنسان والبيئة. يضاف إلى ذلك حظائر كبيرة ومتنوعة لإنتاج الحيوانات المحلية والمهجنة من الإبل والأبقار والأغنام والطيور، وفق تنظيم الكتروني تأخذ كل منها فيه شريحة الكترونية تثبت في أذنها منذ الولادة، وتدون فيها كل المعلومات المتصلة بنوعها وسجلها الطبي، وعدد التطعيمات التي أخذتها، ووزنها وعمرها، وإذا حملت الأنثى أيضاً دوّن ذلك في هذه الشريحة. فعندما تمر عند بوابات في الممرات التي تحمل أيضاً أجهزة قراءة إلكترونية، تفتح لها البوابة المناسبة سواء للدخول إلى التزاوج أو التطعيم أو الحلب أو الذبح وغيرها من الإجراءات. وفي جولة متميزة على أشجار الزيتون التي تتميز بها منطقة الجوف في كل من الوطنية والجوف الزراعية ونادك، وجدنا ما يسر المتفائلين بمستقبل اقتصادي جيد للمنطقة في ظل هذا التميز الزراعي؛ حيث انتقلت زراعته من التقليدية إلى الطريقة المكثفة، التي لا يفصل الأشجار فيها سوى متر ونصف عن بعضها. وتُعنى فيها هذه الشركات بتوفير المياه من جهة، ومكننة التقليم والحصاد والمعالجة الآلية لأي طارئ في هذه الحقول التي تتراوح فيها أشجارها بين ثلاثة وعشرة ملايين لدى كل شركة. وقد مررنا على محافظة طبرجل ذات الطبيعة البرية المتميزة، ثم القريات التي عدنا منها بعد زيارة بعض معالمها. أستاذ اللسانيات بجامعة الملك سعود