×
محافظة المنطقة الشرقية

سكان النائية: أرسلوا الباحثين لاكتشاف مستحقي الضمان

صورة الخبر

في العام 1885 كان روبرت لويس ستيفنسون طريح الفراش يعاني من مرض أقعده لفترة. وذات ليلة أفاق عند الفجر يرتعد ويتمتم كلاماً غير مفهوم. استيقظت زوجته وسارعت تعتني به سائلة اياه عما يعتريه، فأخبرها أنه شاهد كابوساً مرعباً. ثم أضاف أنه لن يشفى مما شاهد إلا إذا أعطته جملة أوراق وأقلام وتركته وحده يكتب. أطاعته المرأة وانصرف هو الى الكتابة بسرعة غير عادية، على رغم مرضه وارتفاع حرارته. وكانت النتيجة انه أنجز، خلال أيام كما يقال كتابة النسخة الأولى من رواية قُيّض لها أن تدخل على الفور تاريخ الأدب من باب واسع، وأن تعتبر دائماً قمة أدب الرعب، وإن كان كثيرون يضيفون انها، أيضاً، قمة في أدب التأمل الفلسفي حول مفهومَي الخير والشر. هذه الرواية هي «دكتور جايكل ومستر هايد». غير انه لا بد من الإشارة هنا الى أن الرواية التي نشرت ونقرأها في شتى اللغات، ليست هي نفسها الرواية التي طلب ستيفنسون من زوجته أن تقرأ نسختها الأولى. فالحال ان تلك النسخة إذ سارعت المرأة الى قراءتها، جعلتها تصرخ من فورها أن «الدكتور جايكل هنا انسان شرير في طبعه. كل ما في الأمر انه يعرف كيف يخفي شره. المطلوب، يا عزيزي، هو أن تجعل منه انساناً طيباً في طبيعته، يحدث له أن يكشف عما في داخله من قسط من الشر يعجز عن السيطرة عليه». وتقول الحكاية ان ستيفنسون أعمل الفكر من فوره في ما قالت زوجته، ثم انغلق على ذاته في غرفته ثلاثة أيام أخرى عمد خلالها الى اعادة كتابة الرواية من جديد، مغيراً من طبيعة الشخصية الرئيسة فيها. وهذه النسخة الجديدة هي التي نشرت على الفور يومذاك، محققة نجاحاً ساحقاً بل أكثر من ساحق في مقاييس ذلك العصر، إذ بيع منها أكثر من 40 ألف نسخة في أسابيع قليلة، وراحت بعد ذلك تترجم الى الكثير من اللغات، ثم اقتبست الى المسرح، ثم الى السينما ومن بعدها مراراً وتكراراً الى التلفزة، في القرن العشرين. وأضحى ازدواج شخصية بطلها الدكتور جايكل مثالاً يضرب، وحالاً جديرة بالدراسة. كيف لا، وقد قال الباحثون منذ البداية أن تلك الإزدواجية هي واحدة من المكونات الأساسية لكل نفس انسانية؟! > ولكي لا نستبق الأمور هنا، قد يجدر بنا، أولاً، التوقف عند احداث هذه الرواية الغريبة، التي قال عنها أحد كبار الباحثين، انها أشبه بمرآة كاشفة وضعها ستيفنسون، ربما من دون أن يدري، أمام كل ناظري انسان منا لتكشف له حقيقته. ولعل هذا هو العنصر المرعب، في «دكتور جايكل ومستر هايد» أكثر من أي عنصر آخر. > المكان، لندن الكئيبة المظلمة. والزمان، أيام ستيفنسون، ذات ليلة كئيبة أكثر من أية ليلة أخرى. والمشهد الذي يطالعنا منذ البداية هو مشهد رجل أحدب قميء قبيح الى درجة مخيفة، أقرب الى أن يكون قزماً، يسير بخيلاء في زقاق جانبي خال من المارة. وهو، خلال سيره، يرسم بعصاه في الهواء أشكالاً غريبة تبدو مرعبة لمن يراها. في الوقت نفسه ثمة فتاة صبية تركض في زقاق آخر يتقاطع مع الزقاق الأول، من دون أن تتنبه. تركض وهي على عجلة من أمرها مرتعبة. وإذ تصل الى زاوية الزقاقين، يحدث ما كان لا بد له من أن يحدث: تصطدم الفتاة بالأحدب القميء ويقع الإثنان أرضاً. فور الوقوع ينهض الرجل ويسير فوق جسم الفتاة من دون أن يعبأ بها، فيما هي تصرخ رعبًا وألماً. هنا يهرع بعض المارة الذين كانوا شهوداً على ما حدث ويقبضون على الرجل، خائفين مندهشين من قبحه. وهو على الفور يعلمهم انه يدعى السيد هايد، ويقول لهم انه لا يحب المشكلات، لذلك يقترح ان يعوّض على الفتاة ما حصل لها. ثم، أمام الجمع الذي فوجئ بذلك، يملأ شيكاً يحمل توقيع واحد من أهل المدينة المرموقين: الدكتور جايكل. > ترى ما هي العلاقة بين ذلك «الوحش» وبين الدكتور المعروف بعلمه وأخلاقه القويمة وطيبته؟ ولماذا عمد الدكتور الى كتابة وصيته، ووضع أمواله، في تصرف ذلك الشخص الذي يثير الرعب والاشمئزاز لدى كل من يدنو منه أو يراه؟ تنتشر هذه الأسئلة في المدينة، ويبدأ الكاتب العدل آترسون الذي تنامى اليه خبر ذلك كله، الى الاهتمام بالأمر، لأنه - قبل أي شيء - صديق حميم للدكتور جايكل، ولأنه - انطلاقاً من وضعه القانوني - يدرك ان ليس ثمة أي تزوير في الأمر، فالتوقيع توقيع جايكل، وثمة أوراق قانونية تثبت قدرة الوحش، فعلاً، على التصرف بأموال الدكتور. فهل ثمة، في الأمر، إذاً، نوع من الابتزاز؟ > وهكذا ينصرف آترسون الى التحقيق في الأمر. لكن الوصول الى الحقيقة لم يتبد سهلاً، ولا سريعاً... وخلال ذلك يكون الوحش هايد قد تمكن من قتل الكثير من الأشخاص، ولا سيما بين النساء العجائز والصغار. وفي نهاية الأمر طبعاً، يتوصل آترسون الى الحقيقة المرعبة. الى تلك الحقيقة نفسها التي «شاهدها» ستيفنسون في كابوسه، وكانت زوجته أول من شعر بالرعب ازاءها إذ كانت أول من قرأ النسخة الأولى - الأكثر رعباً - في الرواية. الحقيقة التي اكتشفها آترسون، بمعاونة صديقه واينفيلد، قالت ان الدكتور الطيب والعالم الجليل جايكل أذهله اكتشافه الفلسفي ذات يوم لواقع انه في داخل كل فرد منا يتعايش كائنان، واحدهما طيب والآخر شرير. > وهكذا ينصرف العالم الى محاولة الفصل، جسدياً، بين الكائنين. وهو يعثر على وسيلة ذلك: امتصاص مادة كيماوية، يمكن بفضلها للمرء أن يكون، وفق ما يشاء، مرة طيباً ومرة شريراً. وهكذا، إذ يطبّق التجربة العلمية على نفسه، نراه يتحول الى المستر هايد، ثم يعود بفضل المادة الكيماوية، دكتور جايكل من جديد. ولأن الدكتور شديد الحذر، يخشى أن يعجز مرة عن أن يعود طيباً لسبب ما، يكتب وصيته لمصلحة مخلوقه الشرير السيد هايد. ويروح هذا، في ليالي لندن العتمة وشوارعها البائسة يتجول ممارساً شروره. وكانت هذه الحقيقة إذ اكتشفها آترسون دافعاً لتحركه. وهكذا، إذ يطرق واينفيلد على باب الدكتور جايكل ذات ليلة، لا يجيب أحد. فالواقع ان هايد عجز في الداخل عن أن يعود جايكل من جديد. ودار صراع داخل هذا المخلوق قرر على اثره ان يحبس نفسه في الداخل غير عالم بما عليه أن يفعل. وحين يدخل آترسون في النهاية، وتنكشف حقيقة الدكتور يفضل هذا أن يقتل نفسه على أن يعيش شريراً بقية حياته. > منذ قرأ الناس، مرعوبين، هذه الرواية، أدركوا انها عمل يتحدث، وربما للمرة الأولى بتلك القسوة وذلك الوضوح، عن الصراع بين الخير والشر داخل الفرد، على ذلك الانفصام الذي يعيشه الإنسان. وقبل ذلك كان الشر والخير يَمْثُلان في الأدب عبر صراع بين أفراد بعضهم شرير وبعضهم خير. وكان من الصعب على المرء أن يتصور أن العنصرين في داخله. ومهما يكن فإن الرواية إذ تنتهي بقتل هايد نفسه خوفاً من ديمومة شره، كانت مُطَمْئنة بعد إقلاق وإرباك، حتى وإن كانت قالت في طريقها ان الشر مصدره الذكاء، ومحاولة المخلوق ان يتشبه بالخالق. > في معظم رواياته الكبيرة، كان ستيفنسون يعبّر، كما في هذه الرواية، عن تساؤلات فلسفية من هذا النوع، حتى وإن اتخذت الروايات طابع المغامرات والترفيه أحياناً. وستيفنسون (1850 - 1894) يعتبر عادة من أكثر الكتاب شعبية في الأدب الإنكليزي. وهو بدأ حياته - وكتاباته - رحالة ومغامراً. أما أعماله الروائية فكانت باكورتها قصصاً نشرها وجمعت تحت عنوان «ألف ليلة وليلة الجديدة» (1892). وكان قبلها نشر الكثير من نصوص تحدث فيها عن رحلاته ومغامراته كبحار أفاق. ومن أشهر روايات ستيفنسون، «جزيرة الكنز» و»السهم الأسود» و»تجويف الموجة» و»سجين ارنبورغ» التي نشرت بعد موته.