عندما اشتعلت حرب 1975 في بيروت، كان الأكثر قلقا الشعراء غير اللبنانيين، الذين منحتهم المدينة الحرية، وأعطوها أجمل الوفاء. لم يعرفوا إلى أين يذهبون من هنا، فهي آخر منفى عربي لا يحمل هذا اللقب. كانت وطنا رديفا لصف طويل من الشعراء والكتّاب الذين توزعوا في فضائها الفسيح، يعملون بلا سؤال عن هوية، ويتقدمون أهلها في المجامع والمحافل، كما نزار قباني وأدونيس ومحمود درويش. فعندما حل الظلام على المدينة ونزل إلى شوارعها حملة الرشاشات، شعر الشعراء العرب بحزن أن منفى آخر ينتظرهم. ولكن ما هو المنفى الذي يحل محل هذه الحديقة العربية القلب واللسان، المتعددة الملامح والآفاق؟ عندما التقيت الشاعر العراقي بلند الحيدري في لندن، قال لي: «لم يعد في إمكاني إحصاء المنافي التي مررت بها؛ لقد هجرت اللغة الكردية إلى لغة الأمة، وتركت قومية الأصل إلى القومية العربية، ثم شرّدني السجن العراقي، فوجدت في بيروت موطنا لا المنفى. وها أنا اليوم في رحابة لندن، لكن كلانا غريب على الرغم من رقي العلاقة». عبَّر بلند الحيدري شعرا عن حبه لبيروت مع أنه لم يغنّ مثل نزار ومحمود درويش. وفيما اختار نزار وبلند لندن، انتقى محمود أن يتنقل بين الضفة الغربية وباريس. بيروت كانت المدينة الوحيدة التي لا يتبرم من طول الإقامة فيها بعد يافا. كذلك غادر أدونيس إلى مدينته المحببة، باريس. وهو أيضا كتب في رثاء بيروت، التي جاءها شابا، كمدينة ياسمين وحرية، ثم رآها تحترق في أتون الجنون. كنت أرافق بلند الحيدري، المتنقل بالثقافة والطيبة والحكايات، إلى مكتبات الدار البيضاء، التي يعرفها رفا رفا وجناحا جناحا. وكان يوصي بقراءة عشرات الكتب التي مرّ هو بها من قبل. وكان أكثر ما يسحر الكردي النبيل كتب اللغة، التي يحرص ألا يلحن بها، أو أن يقال إن الشاعر الكردي يهمل مخارج الحروف. وكانت معظم حكايات بلند، دون غياب البسمة لحظة واحدة، عن ضيق بغداد وفسحة بيروت. من أجل الأولى تخلى عن عائلته الأرستقراطية المالكة لأطيان الأراضي، لكي ينضم إلى جيل الحلم والثورة. ثم رأى جميع الحالمين يُساقون إلى السجون. ورأى المفكرين يُدفعون جانبا. وكان يكرر أن «مدينة السلام» أصبحت «مدينة الرعب والخوف». وبعد محطة مريحة في بيروت، وجد نفسه مرة واحدة وأخيرة في «الغربة». لم يعد إلى بيروت ليلقي فيها قصائده. أما نزار الذي فقد فيها بلقيس، فعاد ليجد قاعة الأمسية مكتظة، والذين في الخارج أكثر من الذين في الداخل، والمئات يقفون على الأشجار المطلة. لكن ثمة غائبة كبيرة: بيروت التي عرفها.